خلال أيام قلائل شهدت مصر عدة حوادث بشعة كان محورها الحرق.. حرق الإنسان.. وحرق المكان.. بل وحرق الهوية المصرية الأصيلة التى تتراجع بشدة وسط وطأة الأحداث الكارثية المتلاحقة التى نعيشها. وقد تابعنا جميعًا خبر حرق شاب «ملتحٍ» داخل محل العطور الذى يملكه فى بورسعيد.. وقرأنا وشاهدنا خبر حرق 13 شخصًا وهم «أحياء» داخل محل بالموسكى.. أثر مشاجرة دامية بين عائلتين فى قلب القاهرة.. ساعة الإفطار!! المشهد الثالث من مشاهد التطرف والشطط والغلو هو دعوة بعض الليبراليين أو اليساريين إلى «علمنة» مصر.. زاعمين أن أرض الكنانة علمانية بفطرتها وطبيعتها، بل إنهم زادو فى غلوهم وتطرفهم إلى القضاء على تيار الإسلام السياسى.. نهائيًا حتى لو تطلب ذلك إراقة مزيد من الدماء!! هذه المشاهد الثلاثة تكشف مدى التغير الذى شهدته وتشهده مصر.. وربما تظل كذلك لفترة غير قصيرة.. ونأمل ألا تطول، والمشهد الأول قمة فى الظلم والقهر والإرهاب عندما يتم حرق شاب لمجرد أنه «ملتح» أو ينتمى للتيار الإسلامى أو لمجرد الشك فى انتمائه لفصيل أو جماعة معينة، وهذا ليس عيبًا ولا جريمة.. ولكن الجريمة الكبرى هى تلك التى ارتكبها هؤلاء عندما أغلقوا باب محل العطور الذى يملكه الشاب الملتحى.. وأحرقوه داخل المحل.. حيًا!! مأساة إنسانية لا يصدقها عقل.. ولا تحدث سوى لمسلمى بورما.. وربما حدثت قبل ذلك فى محارق أخرى.. عبر التاريخ الأسود للبشرية. هنا نتحدث عن روح الانتقام البشع الذى يتعرض له بعض المواطنين لمجرد الانتماء لتيار أو اتجاه معين، ولو افترضنا جدلًا أن الأمور قد تغيرت فهل يتوقع هؤلاء أن ينتقم أحد منهم.. بذات الأسلوب الحقير؟ هل يقبلون أن يحدث ذلك لهم أو لأهلهم؟ والأهم من ذلك: هل القوة التى يمتلكونها الآن دائمة وأبدية.. أم أن موازين القوى تتغير بإرادة الله.. وأن دوام الحال من المحال؟! نحن على ثقة بأن مرتبكى هذه الجريمة البشعة ليسوا آدميين وليسوا مصريين حقًا.. حتى لو حملوا الجنسية والهويات المصرية.. بل إن هؤلاء بلطجية محترفون مأجورون لا يقتلون شخصًا.. بل يقتلون وطنًا.. ويقتلون الإنسانية جمعاء. ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الارض فكأنما قتل الناس جميعا ) صدق الله العظيم. أما المشهد الثانى.. فى حى الموسكى فهو أشد بشاعة وإن لم يرتبط بالصراع السياسى أو الدينى الدائر الآن.. ولكن عندما تصل الأمور إلى درجة إغلاق محل وإحراقه بمن فيه وما فيه.. وأن تكون الحصيلة حرق 13 إنسانًا بريئًا بداخله.. فهذا مؤشر خطير على تغير طبيعة المصريين وعلى مدى الانحراف عن هويتنا الأصيلة الجميلة التى كانت ونأمل أن تعود. كما أن الحادث يعكس مدى الانفلات الأمنى السائد فى الشارع المصرى، رغم المحاولات الجادة للشرطة لاستعادته.. ولكن تفشى السلاح فى كل مكان عامل أساسى فى هذا الانفلات وفى تزايد الحوادث من هذا النوع البشع. وإذا كانت البلطجة سلاحًا فى يد البعض.. فإن هذا السلاح يمكن أن يرتد عليه وينقلب ضده ولا يمكن السيطرة عليه، كما أن سهولة استخدام السلاح عند أى مشكلة تافهة تفتح أبواب جهنم ليس لارتكاب جرائم ولكن لإفساد طبيعة المصريين وإفساد الوطن بأسره. أما المشهد الثالث والأخطر.. فهو لا يقل عن حرق البشر بل إننا نراه أشد خطرًا وتدميرًا لهوية وهوى المصريين، عندما يدعو البعض إلى تشكيل الدستور الجديد على أساس علمانى بحت وإقصاء الإسلاميين عن المشهد السياسى.. ولو بالدماء. ولست أدرى كيف يدعو هؤلاء الذين يدعون الحرية والديمقراطية إلى إراقة الدماء؟ أليست تلك جريمة مسجلة ومتكاملة الأركان، عندما يدعو هذا أو ذاك إلى سفك دماء المصريين.. أو حتى سفك دماء أى إنسان؟! لماذا لا يتحرك النائب العام لوأد هذه الفتنة الكبرى التى لا تقل خطرًا عما نشهده من كوارث دموية فى مواقع كثيرة من أرض الكنانة. * * * هنا يجب أن نسأل ونتساءل: ما هى الأسباب التى أوصلتنا إلى هذا الوضع الكارثى.. وإلى هذا التطرف والغلو والشطط الهائل فى الحرق البدنى والانحراف الفكرى؟ بداية كلنا يدرك مدى التغيرات الهائلة التى شهدتها مصر على مدى العامين ونصف العام الماضيين، بدءًا من ثورة 25 يناير 2011 وحتى الآن.. فبلادنا تشهد حراكًا هائلًا وغليانًا مستمرًا لا يكاد يتوقف، هذا الغليان أشبه بالبركان الثائر يلقى بالحمم فى كل اتجاه.. بل إن الوضع لدينا قد يكون أخطر من البركان.. لأن الأخير محدد المكان.. ويمكن إتقاء شروره فى إطار جغرافى معين.. ولكن البركان الذى تشهده مصر لا يحده زمان ولا مكان.. ولا يمكن توقع آثاره ونهاياته وأطرافه.. نعم بدأت ثورة البركان فى 25 يناير 2011 ولكننا لا ندرى إلى أين ينتهى بنا وكيف ستكون النهاية.. وما هو مصير القوى المؤثرة فيه خلال الصراع الهائل وشديد الحركة. بمعنى آخر.. فإننا نتحرك فوق ما يمكن أن نطلق عليه «الكثبان السياسية المتحركة».. فما نراه الآن قد يتغير غدًا.. مثلما حدث بالأمس.. ومعادلة موازين القوى تحكمها معايير كثيرة وأطراف متعددة تتجاوز حدود مصر.. إلى آفاق العالم بأسره، فمصر دولة محورية تهم العالم.. كما يهتم العالم بها ويحرص على استقرارها وأمنها. أما السبب الثانى لهذا التغير الهائل الذى تشهده أرض الكنانة فهو الصراع الفكرى والسياسى والأيديولوجى وجزء منه قادم إلينا ووافد علينا.. وكثير منه ضار ويعمل ضد الهوية المصرية الأصيلة.. بمعنى آخر فإن مصر تحولت إلى ما يشبه ساحة صراع سياسى وفكرى وأيديولوجى قبل أن يتحول هذا الصراع إلى مسالك عنيفة ودموية أحيانًا. لذا فإن «النخبة» التى تنقل إلينا هذا الصراع تحولت إلى «نكبة» بل إلى كارثة بكل معنى الكلمة.. هذه النخبة التى فسد أغلبها ساهمت إلى حد كبير فى مآسينا وكوارثنا وزرعت أحقادًا وحرضت على الكراهية والعنف والازدراء بصورة إجرامية تستوجب معاقبتها، فالحرية لا تعنى الفوضى من أى طرف.. والحرية لا تعنى الاعتداء على الأصول والأسس الحضارية للمجتمع. أما الإعلام فهو الطرف الأول المسئول عن أغلب الكوارث.. أقول هذا لأننا جميعًا نشهد إعلامًا وإعلاميين يحرضون على الفتنة والإقصاء والتهميش.. بل ويمارسون أفظع كلمات السباب والقذف ضد رموز وقيادات وأيديولوجيات معينة، كلنا يتابع ذلك وهو مسجل بالصوت والصورة، ولا أحد يتحرك ليسائل أو يعاقب من يرتكب جرائم التحريض والكراهية والازدراء.. من كل الأطراف دون استثناء. ولعل انتشار ثقافة الحشود والحشود المضادة خطر كبير على الديمقراطية التى تقوم على انتخابات الصندوق والتصويت الحر النزيه، وليس التصوير والحشد والتضخيم الإعلامى، وإذا كنا نريد السير فى اتجاه الديمقراطية حقًا وصدقًا فلا مجال سوى الصندوق.. أما الحشود فهى اليوم مع طرف.. وغدًا مع آخر.. وهى ليست مقياسًا دقيقًا أو قانونيًا أو دستوريًا بها فى الديمقراطية المعروفة والراسخة. وإذا كان الشعب المصرى متدينًا بطبعه (مسيحيًا كان أو إسلاميًا) فإن إقصاء الدين عن المشهد السياسى لا يتناغم مع طبيعة وهوية وتاريخ وحضارة هذا الشعب الأصيل، لقد كان الإسلام ومازال وسيظل يشكل هوى وهوية المصريين.. بل إنه يحفظ للأشقاء المسيحيين كافة حقوقهم.. أكثر من الكاثوليك الرومان الذين اضطهدوهم قبل مجىء الإسلام فأنقذ قساوستهم ورهبانهم الذين فروا إلى الصحراء هربًا من بطش الرومان. سبب آخر لتغير الهوية المصرية هو تصاعد شهوة السلطة والاستحواذ على المال.. نعم إن جانبًا كبيرًا من هذا الصراع سببه المال والسلطة.. وربما الاثنان معًا.. أى تزاوج السلطة والمال.. وقد شهدنا ذلك فى عهد مبارك.. وهاهو يعون الآن.. بكل قوة.!! * * * و أخير يجب أن نعترف بأن الشخصية المصرية قد تغيرت وأخرجت خلال الشهور الأخيرة أسوأ ما فيها.. وأفضل ما فيها أيضًا! ولكن الأسوأ يظن أنه انتصر أو ربح المعركة.. ولكننى أعتقد أنه صراع طويل ومرير.. ونرجو أن تكون مصر هى المنتصرة.. أولًا وأخيرًا!