أستعير من الكاتب الصحفى الراحل أحمد بهاء الدين عنوان كتابه الشهير «أيام لها تاريخ» وربما أستعير منه الفكرة أيضا!. الكتاب يتحدث عن شخصيات مصرية.. سعد زغلول وعدلى باشا والشيخ على يوسف والأدباتى وغيرهم.. كان لكل منهم موقفه المميز الذى استطاع أن يؤثر به فى المجتمع.. وهذه المواقف من وجهة نظر الكاتب يحتفظ بها التاريخ لأهميتها ويسجلها فى أيام محددة. وكذلك أفعل.. أتحدث عن مواقف يسجلها التاريخ ويحتفظ بها.. ليس لشخصيات محددة كما فعل كاتبنا الراحل وإنما لكل الشخصيات.. للشعب!. ولا أفعل ذلك للتسلية وإنما لكى أطرح سؤالا أحاول أن أجد له إجابة.. ماذا حدث لمصر وللمصريين؟!. وابدأ بأيام النكسة.. نكسة 1967.. أيام الذل والانكسار والمرارة والإحباط.. فى هذه الأيام كانت الصدمة تفوق الاحتمال وكان الانهيار والتفكك أقرب من كل الاحتمالات الأخرى!. كان الجيش المصرى قد تحطم تماما.. طائراته ومدرعاته.. والأهم معنوياته.. وكان الشعب على وشك أن يلحق بجيشه.. لكنه لم يفعل لأنه أراد أن يعيد بناء الجيش!. كان الأمل الوحيد والمتبقى فى نفوس المصريين يتعلق بالجيش وقدرتهم على إعادة بناء هذا الجيش وتسليحه وتجهيزه لاستعادة الأرض التى استولى عليها العدو.. والأهم استعادة الكرامة. فى هذه الأيام ظهرت عبارات وتعبيرات لا يعرفها إلا الذين عاشوا هذا الأيام.. المجهود الحربى ولا صوت يعلو على صوت المعركة.. وغيرها من العبارات التى أصبحت جزءا من لغة الشعب. ومن أجل المجهود الحربى ومن أجل بناء الجيش المصرى تبرع المصريون بالغالى والنفيس.. حتى الفقراء كانوا يتبرعون بأشياء بسيطة كدبلة الزواج وغيرها، لكنها كانت بالنسبة لهم كل ثروتهم.. واشترك فى حملة التبرعات كل رموز المجتمع وأذكر منهم الراحلة العظيمة أم كلثوم التى قامت بإحياء عدة حفلات خارج مصر لكى تشارك بإيرادها فى التبرع للمجهود الحربى.. لبناء الجيش المصرى. فى نفس الوقت ساهم الشعب بتحمله وحرمانه فى توجيه إيراداته وعائداته أو معظمها لصالح المجهود الحربى ولصالح إعادة بناء الجيش المصرى. حرم الشعب المصرى نفسه من كل الرفاهيات والكماليات ومن معظم الأساسيات من أجل أن يذهب كل مليم إلى الجيش.. وعندما حان الوقت المناسب لكى تسترد مصر أرضها وكرامتها.. كان المسرح قد أصبح مهيأ تمامًا بفضل إرادة الشعب وتحمله. وقام الجيش بدوره وواجبه.. وبدأ معركة العزة والكرامة.. وعاش الشعب أيام الانتصار.. وحتى فى هذه الأيام كان للشعب مواقفه. *** كتبت كثيرا عن حرب أكتوبر 73 وأجريت حوارات مع القادة الذين شاركوا فى هذه الحرب ومنهم الراحل المشير عبد الغنى الجمسى.. وعرفت تفاصيل كثيرة عن الحرب المعجزة التى استطاع فيها الجيش المصرى أن يستعيد.. ليس فقط كرامة مصر وإنما أيضًا كرامة العرب.. عرفت الكثير عن خطة الخداع وعن معارك الدبابات والمدرعات والأداء البطولى للجنود المصريين الذى قلب الموازين العالمية.. عرفت الكثير وغرقت فى التفاصيل لكن ذلك كله لم يبعدنى عن مواقف الشعب المصرى وأدائه خلال تلك الأيام. كان الشعب المصرى يدرك بقناعة تامة أنه يمثل الجبهة الداخلية للجيش وأن واجبه أن يحمى هذه الجبهة. خلال تلك الأيام لم يندفع المصريون لتخزين السلع وتفريغ الأسواق منها كما تفعل عادة الشعوب وقت الحروب.. لم يحاول أحد أن يضغط على الاقتصاد المصرى ويحمله ما لا طاقة له به لكى يقوم بما هو مطلوب منه لدعم الجيش الذى يحارب. فى نفس الوقت أراد الشعب أن يتيح لجيشه أن يقوم بواجبه تماما بدون أى معوقات.. فإذا بالأزمات التى كانت مصر تعانى منها تختفى تماما لكى يتفرغ الجيش لدوره وواجبه.. حتى اللصوص والحرامية امتنعوا تماما عن السرقة واختفت تقريبا المشاجرات والمشاحنات التى لم يكن يخلو منها شارع ومدينة. توحد الشعب المصرى - فعلا وليس قولا - وراء جيشه وبدا متماسكًا قويًا فكان ذلك أكبر دعم يقدمه لجيشه. وكان من الطبيعى أن يتحقق الانتصار.. وكان ذلك بفضل مواقف الشعب التى عاشها أيام النكسة وأيام الحرب. *** ونصل إلى السؤال المطروح: ماذا حدث لمصر وللمصريين؟ لأول مرة ينقسم الشعب على نفسه بهذه الطريقة.. هم ونحن.. ولأول مرة يتبادل "هم ونحن" الكراهية بهذا الشكل. كانت كرة القدم أحيانًا تتسبب فى انقسام المشجعين خاصة الذين ينتمون للناديين الكبيرين.. الأهلى والزمالك.. لكن مباراة واحدة للفريق القومى وانتصارًا يحققه كانت كفيلة لمحو كل آثار الانقسام. الكراهية وصلت إلى درجة مخيفة.. وأصبح كل فريق متربصًا بالآخر.. فريق التيار الإسلامى أو الإخوان.. وفريق التيار المدنى أو الليبرالى كما يطلقون عليه. وتعبر الكراهية المتبادلة عن نفسها فى مناسبات كثيرة آخرها المعارك التى نشبت بين مؤيدى الرئيس ومعارضيه بعد حركة المحافظين الجدد.. وتصل الأمور إلى حد استخدام السلاح.. ويشتبك الجميع فى معركة التصريحات ويتبادلون الاتهامات بالكفر والتخوين. وتنعقد الاجتماعات.. اجتماعات الجنرالات فى كلا الفريقين.. يدبرون ويخططون ويتوعدون.. ونسمع من يقول قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار.. ونسمع من يتحدث عن إقصاء الآخرين والقضاء عليهم. وتفقد الأرقام معناها بعد أن اصطبغت بالدماء.. سقوط قتيل، اثنين، عشرة، مائة، لا فارق.. عشرات أو مئات الجرحى.. لا يهم.. ويتحول يوم 30 يونيو القادم إلى يوم يستعد فيه نصف المصريين للقضاء على النصف الآخر. كيف نخرج من هذا المستنقع؟!. *** يقول المثل أن تأتى متأخرًا أفضل من ألا تأتى مطلقًا.. ولا يزال عندى أمل أن يقدم الرئيس مبادرة.. مبادرة حقيقية تعيد الأمور إلى نصابها ويستعيد معها الشعب وحدته. فالمعجزات تتحقق أحيانًا!.