يقول الله تعالى فى كتابه الكريم {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ....} من الآية 58 من سورة النساء. إن استقلال القضاء قضية قومية عامة لا تخص القضاة وحدهم وأن اعتزاز الشعب المصرى بهذه المؤسسة يتطلب إجراء البحوث العميقة اللازمة لتأكيد استقلال القضاء، وقد فرضت ذلك ثورة 25 يناير المجيدة التى استوجبت إجراء تعديلات جوهرية لإصلاح سلطات الدولة الثلاث، ومنها السلطة القضائية. وسوف نتناول هذا الأمر فى مقالات متعددة نتناول فيها استقلال القضاء المصرى بين الواقع والمأمول. يتبيّن لنا من التعمق فى تاريخ القضاء المصرى الناصع أن السلطة القضائية فى مصر قد اعتلت مقعداً عالياً رفيعاً بين سلطات الحكم تربعت عليه منذ أوائل القرن العشرين، فزمام العدل بيدها. والعدل أسمى معانى الحياة فى الأرض، اتخذه الله سبحانه وتعالى من أسمائه الحسنى وأورده فى القرآن الكريم فى اثنتى عشرة سورة، فطوبى لمن حمل رسالته المباركة وأوفاها حقها وفهم أصولها. ولقد أَنزلت الدساتير المصرية والإعلانات الدستورية المتعاقبة – ومنها الدستور المصرى الجديد لسنة 2012 - سلطة القضاء ذلك المقام الجليل، تتناقله نصوصها عهداً من بعد عهد، ونصاً من بعد نص، تكاد تتطابق فى عباراتها بل فى كلماتها تحيطها بسياج منيعة من العز حصناً منيعاَ لها من أى اقتراب لحرمتها وقدسيتها. وكلما مضت الأيام والسنون يضاف إلى قوانين السلطة القضائية ما يزيد من دعمها ويوطد أركانها واستقلالها إيماناً من المُشرِّع المصرى بعلو مكانة القضاء بين الناس والوقوف فى وجه أى مسحة للتدخل فى شئونه، وبلغ من علو قدر القضاء أن أطلق على القائمين عليه ما هو فيهم بحق وهو أنهم أصحاب المقام الرفيع. ومن المُسلّم به أن تقدُم الأمم يُقاس بمقدار استقلال القضاء فيها وذلك لأن القضاء ليس مُجرّد مِرفَق أو هيئة عادية وإنما هو إحدى سلطات الدولة الثلاث، لذلك يجب ألا تتغوّل السلطتان التنفيذية والتشريعية على السلطة القضائية. وسوف نتعرّض فيما يلى لتحديد مدى استقلال القضاء بين ما هو كائن وما يجب أن يكون وذلك من خلال خبرة تتكوّن من نوعين من التجارب: النوع الأول: تجربة عملية واقعية اكتسبناها من خلال ممارسة العمل القضائى على مدى ثمانية وثلاثين عاما فى جميع مواقع القضاء بين النيابة العامة ورئاسة دوائر المحاكم الجزئية والابتدائية والاستئناف العالى وبين ممارسة العمل الفعلى فى جميع تخصصات القضاء المدنى والجنائى والتجارى والأحوال الشخصية وغيرها. والنوع الثانى: من التجارب هو تجارب أكاديمية لأننا لم نكتف بما تقدّم من خبرة عملية، وإنما دعّمنا هذه الخبرة العملية بدراسة أكاديمية مقارنة اشتملت على دراسة دبلوم فى الشريعة الإسلامية والقضاء فى الإسلام ودراسة دبلوم فى القانون العام ودراسة عملية مقارنة عبارة عن رسالة للدكتوراه تناولنا فيها حدود وقيود المسئولية الجنائية والمدنية والتأديبية للقضاة وأعضاء النيابة العامة فى القانون المصرى وتشريعات الدول الأجنبية والعربية والمعاهدات الدولية والشريعة الإسلامية الغرّاء. كما قمنا بإعداد أكثر من مؤلف عن السلطة القضائية عموما وعن السلطة القضائية فى القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة بالمقارنة بالقوانين الوضعية، ومن جماع خبرتنا العملية فى العمل القضائى وخبرتنا الأكاديمية فى الدراسات المتعلقة بالسلطة القضائية فإننا نرى أن القضاء المصرى كقاعدة عامة يتفوّق فى استقلاله على دول أجنبية متعددة وذلك على النحو الذى سوف نوضحه فيما يلى :- (1) القاعدة الأولى : أنه لا يوجد فى العالم قضاء مستقلا استقلالا خالصا أى مستقل مائة فى المائة: يتبين للباحث فى تاريخ النظم القضائية أنه لا يوجد جهاز قضائى فى العالم مستقل استقلالا خالصاً بنسبة مائة فى المائة، وسوف ندلل على صحة هذه الحقيقة بثلاثة أمثلة عملية، المثال الأول حدث فى المملكة المتحدة ومن القضاء الإنجليزى – مضرب الأمثال فى الاستقلال والحيدة – حيث صدر قرار قضائى بالإفراج عن المحكوم عليه فى قضية «لوكربى» الإرهابية التى وقعت فى 21/12/1988 وهو المواطن الليبى عبدالباسط محمد على المقرحى نتيجة ضغوط سياسية واقتصادية كان لها التأثير المباشر فى قرار القضاء الإنجليزى بالإفراج عنه. كما تكشّف ذلك جليّا بعد صدور القرار المذكور باعتراف الأطراف أنفسهم. والمثال الثانى على ذلك: حدث فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وهو قيام القضاء الأمريكى بإصدار قرار قضائى بإعلان فوز الرئيس الأمريكى «بوش الابن» بالرئاسة- لفترة رئاسته الأولى - على منافسه بناءً على القرار القضائى المذكور والذى صدر من قضاة كان ينتمى غالبيتهم إلى حزب الرئيس «بوش الابن» كما أن والده الرئيس بوش الأب كان قد عيّن إبان رئاسته بعض هؤلاء القضاة فى القضاء الأمريكى من قبل. والمثال الثالث على ذلك فى جمهورية فرنسا بالمقارنة بمصر فإن القضاء المصرى يتفوّق على القضاء الفرنسى بشأن الحصانة القضائية، وذلك لأن جميع القضاة المصريين يتمتعون بالحصانة القضائية الكاملة - عدا معاونى النيابة – وذلك طبقا للمادة 67 من قانون السلطة القضائية المصرى رقم 46 لسنة 1972 المعدل حيث أسبغ المشرّع المصرى الحصانة القضائية وشملت جميع رجال القضاء الجالس والواقف واستطالت حتى طالت النائب العام نفسه، فى حين أن أعضاء النيابة العامة لا يتمتعون بالحصانة القضائية فى النظام الفرنسى ويعتبر مبدأ عدم قابلية القضاة للعزل أو ما يُطلق عليه بالفرنسية Inamovibilité وبالإنجليزية Irremovability of judges هو حجر الزاوية فى استقلال القضاء فى العالم المعاصر . (2) القاعدة الثانية: أن السلطة التنفيذية– فى جميع دول العالم - لا ترغب فى الاستقلال الكامل للسلطة القضائية: تبين لنا من دراسة وضع السلطة القضائية فى النظم القانونية المقارنة أن السلطة التنفيذية لا تسعى – كقاعدة عامة – إلى كفالة الاستقلال الكامل للسلطة القضائية، ويرجع ذلك إلى أنه من مصلحتها الدستورية أن تكون هى السلطة الوحيدة الأقوى بين سلطات الدولة، وتسعى السلطة التشريعية ذاتها إلى هذا الهدف، وهذا المسلك يتعارض مع الديمقراطية ومع مبدأ الفصل بين السلطات أو ما يُطلق عليه بالفرنسية Séparation des pouvoirs وبالإنجليزية Separation of powers. ينقسم استقلال القضاء إلى الاستقلال الداخلى الذاتى فى شخصيّة القاضى والاستقلال الخارجى للقاضى عن النظام القانونى للدولة، وهما وجهان لعملة واحدة، وذلك على النحو الذى سوف نوضحه فيما يلى:- الوجه الأول من الاستقلال : هو الاستقلال الداخلى الذاتى فى شخصية القاضى: يعتبر القضاء أمانة وولاية ورسالة، والقاضى من أصحاب الرسالات وهو من خاطبه ربه قائلا: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) الآية 26 من سورة ص. والإنسان لا يُولد قاضيا، ولا تتوافر له مقومات الصلاحية للقضاء إلا بالدراسة والإرشاد والإعداد، ولا تكتمل للقاضى أركان الاستقلال الشخصى إلا بالتدريب والتكوين عند بدء التعيين مع التدريب القضائى المستمر. وخلاصة ما تقدم أن مقومات الاستقلال الداخلى للقاضى والصلاحية الشخصية هو ما يأتى: أولا: الإيمان بالله تعالى. ثانيا: الإيمان المطلق بالقضاء كرسالة. ثالثا: العلم بالقانون وأصول المنطق والفن القضائى. رابعا: الإيمان بالقيم والتقاليد القضائية وتطبيقها نظريا وعمليا ومسلكيا داخل العمل القضائى وخارجه. خامسا: الحصانة الداخلية للقاضى ضد أى إغراءات مادية أو معنوية. وتأسيسا على ما تقدم فإن الاستقلال الداخلى للقضاة يجب أن ينبع من قلوبهم وان يكون طبعا وطابعا ومنهجا لسلوكهم وقد أثبت التاريخ أن القضاة فى مصر هم نخبة من رجال الأمة اعتادت نفوسهم على احترام القانون، وانغرس فى قلوبهم حب العدل، وهم بطبيعة وظيفتهم يؤمنون بمبدأ المشروعية والاستقلال الشخصي. فهذا الاستقلال الداخلى لا يستمده القاضى من النصوص إنما يستمده من داخله ومن ذاته ومن ثقته فى نفسه وثقته وإيمانه بالله تعالى. وهذا الاستقلال الذاتى متوافر بين جميع قضاة مصر، فقد أصبح القضاء المصرى مضرب المثل فى ذلك وهذا أمر معروف فى مصر وبين قضاة العالم. الوجه الثانى من الاستقلال : هو استقلال القضاء عن المؤثرات الخارجية: يلزم لاستكمال الاستقلال الداخلى للقاضى السابق بيانه أن يستقل القضاء عن المؤثرات الخارجية ويلزم للاستقلال الكامل للقضاء عن المؤثرات الخارجية ضمانات دستورية وقانونية متعددة سوف نتناولها فى مقالات تالية؛ أولها مقال «الأسس أو القواسم المشتركة بين الهيئات القضائية فى الدستور المصرى الجديد لسنة 2012». E-mail:[email protected] www.drmourad.net +