شاعر عربى كبير.. ينطبق عليه القول المأثور (ومن الحب ما قتل) فقد دفعه لهيب الحب وجنون الغيرة إلى قتل زوجته (ورد) وصديقه (بكر) بعد أن تعرض لمؤامرة من أقاربه، لا تختلف كثيرا فى تفاصيلها عما تعرض له عطيل وحبيبته (ديدمونه) ولكن شاعرنا المحب لم يكتف بذلك، بل صنع من رماد جسديهما كأسين لشرب الخمر! إنه الشاعر عبد السلام بن رغبان، الذى عاصر العصر العباسى ووصف بعطيل العرب، فقد كان متيماً بفتاة حسناء شغفت قلبه حبا.. وكان يقول: أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا وقد توجت قصة الحب بينهما بالزواج على الرغم من اختلاف الديانة، وأهداها (زجاجة) من العطر صنعت خصيصا لها من قبل عطار مشهور بالشام، ولكنه قبل أن يسعد بصحبتها ويهنأ برغد العيش معها، اضطر إلى السفر لزيارة صديقه المريض بدمشق، فأخذ يودع حبيبته وزوجته.. وهو يقول: ودعتها لفراق فاشتكت كبدى إذ شبكت يدها من لوعة بيدى وحاذرت أعين الواشين فانصرفت تعض من غيظها العناب بالبرد فقدخفق قلبه وتألم كبده وهو يودعها، وهى ممسكة بيده وتعض بأسنانها على شفتيها من لوعة الفراق. ولأن شاعرنا الذى لقب بديك الجن لفصاحته وذكائه وجمال أشعاره التى كان دائما ما ينشدها عند بزوغ الفجر، وقبل أن تصيح الديوك بمجيئه.. قد ورث مالا كثيرا عن أبيه كما كان مدمنا للخمر.. شديد الإسراف، ولم يكن له أشقاء، فقد طمع أبناء عمومته فى تلك الثروة وخشوا من ضياعها واستغلوا فرصة غيابه ودبروا مؤامرة للتخلص منه، ولأنهم يعلمون حبه الشديد لزوجته وغيرته المجنونة عليها، فقد طلبوا من ذات (العطار) الذى صنع زجاجة العطر للشاعر أن يصنع مثلها، وعندما علموا بقرب عودته من السفر، سارعوا بإهدائها لصديقه الحميم (بكر)، الذى فرح بها وتعطر منها، كما أعدوا له استقبالا خاصا، حيث جمعوا عددا من الأطفال وطلبوا منهم أن ينشدوا: ديك الجن.. سوف يجن.. ورد خانت ديك الجن.. واندهش الشاعر مما رأى وسمع ولذلك عندما التقى الصديقان واشتم الشاعر رائحة العطر الذى أهداه لزوجته على ملابس صديقه ساورته الظنون وأعتقد أنه يخونه فبادر بقتله، ثم سارع إلى زوجته وقتلها أيضا وهو يقول: أيها القلب لا تعد لهوى البيض ثانية خنت سرى ولم أخنك فموتى علانية! وعندما حضرت خادمته وفوجئت بما حدث، حاولت إفهامه الحقيقة.. وأنه تعرض لمكيدة خبيثة من أبناء عمومته، وأن صديقه وزوجته بريئان مما ظنه بهما، وأحضرت له زجاجة العطر التى أهداها لزوجته فوجدها مغلقة ولم تستعمل من قبل، كما وجد زجاجة أخرى فى ملابس صديقه.. وعندما تكشفت له الحقائق كاملة.. أخذ يبكى ويصرخ.. لائما نفسه على ما جنت يداه.. محاولا الانتحار ولكن الخادمة منعته من ذلك، فطلب منها أن تروى قصته للناس بعنوان (عاشق ورد وقاتل صديقه).. وبعد أن هدأت نفسه.. أحضر الجثتين وحرقهما كلا على حدة، وصنع منهما كأسين مختلفين، وبدأ يتجرع منهما خمرا ممزوجا بالمرارة والعذاب وقلبه ينزف شعرا باكيا.. تتغنى به النائحات فى المآتم وسافحات الدمع عند القبور، وكان عندما يبدأ فى شرب الخمر.. يحضر الكأسين فى مجلسه، واضعا أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره.. وتارة ينظر إلى الكأس المصنوع من رماد زوجته وهو يقول: يا طلعة طلع الحمام عليها وجنى لها ثمر الردى بيديها رويت من دمها الثرى ولطالما روى الهوى شفتى من شفتيها ثم تارة أخرى ينظر إلى الكأس المصنوع من رماد صديقه.. قائلا: وقتلته وله على كرامة ملء الحشا وله الفؤاد بأسره عهدى به ميتا كأحسن نائم والحزن يسفح عبرتى فى نحره وقضى حياته محزونا مكتئبا باكيا.. وكثيرا ما كان يرد على معاتبيه لكثرة بكائه مع سوء فعلته.. يقول: ويعذلنى السفيه على بكائى كأنى مبتلى بالحزن وحدى يقول قتلتها.. سفها وجهلا وتبكيها بكاء ليس يجدى كذباح الطيور له بكاء عليها وهو يذبحها بحد والغريب أن ديك الجن هذا رغم فداحة فعلته.. له أشعار فى غاية الرقة والجمال.. وتكشف عن نفس غارقة بالإيمان.. ومنها: الخلق ماضون والأيام تتبعهم تفنى ويبقى الإله الواحد الصمد كما أنه محب لآل البيت متشيع لهم، ومما قاله فيهم: يا صفوة الله فى خلائقه وأكرم الأعجمين والعرب أنتم بدور الهدى وأنجمه ودوحة المكرمات والنسب نعم كان متدينا.. وإنما كان أيضا محبا وعاشقا غيورا، لكنها غيرة مجنونة، وحبا قاتلا.. ومن الحب ما قتل!