أن عبد المنعم الصاوى عاش حياته رهنا لقيم ورثها عن بيئته الريفية التى نشأ فى أعطافها ليصبح مثلا حيا للمقولة الشهيرة أنه ترك القرية- ولكن القرية- لم تتركه. و أعتقد هذه النشأة قد ساهمت بشكل فعّعال فى نهجه الذى انتهجه فى حياته، حيث لم يرغب فى شهرة أو جاه وكان عزوفا عن كل سبل الاستعراض رغم ما أتاحته المناصب الرفيعة التى تقلدها.. فضلا عن أنه لم يبخل يوما بما فى استطاعته أن يمد يد المساعدة لمحتاج أو صاحب حاجة. وفى هذا المجال انتشر تلاميذه فى الحقلين الأدبى والإعلامى ليؤكدوا ما أسداه حيالهم من أياد بيضاء مهدت لهم سبل الذيوع والانتشار وترسيخ ما لديهم من مواهب وقدرات جعلت منهم نجوما ساطعة.. وهنا يجدر أن نبدى أسفا شديدا لما يلقاه هذا القطب الأدبى والإعلامى من جحود ونكران ليس من تلاميذه فحسب إنما من الأحياء من أقرانه وهو صاحب فضل على كثير منهم.. حيث مرت ذكرى رحيله الثامنة والعشرين دون أن يحتفى به الاحتفاء الواجب لأمثاله من عظماء الإبداع الروائى وقد وافته المنية- رحمه الله- فى السابع من شهر ديسمبر عام 1984.. وقد ولو عبدالمنعم الصاوى فى عام 1918 بقرية الضهرية مركز إيتاى البارود بمحافظة البحيرة تلك المحافظة التى قدمت كوكبة من أساطين الإبداع على اختلاف ألوانه وأنواعه ومنهم الشيخ عبدالله الخراشى أول شيخ للأزهر الشريف والشيخ محمود شلتوت أبرز شيوخ الأزهر وأكثرهم وعيا واستنارة، وكذلك نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد عبد الحليم عبدالله وأمين يوسف غراب وعبدالوارث عسر وغيرهم كثيرون تضيق بهم المساحة. *** وإذا كانت مكانة عبدالمنعم الصاوى كأحد كبار الروائيين فى تاريخ الأدب العربى قد طغت على مكانته الصحفية والإعلامية فإن ذلك يحسب له لا عليه حيث كان جادا فى الفصل بين كل هذه المهام التى جعل منها خدمات خالصة للوطن دون أن يجور جانب منها على الآخر، وذلك رغم ما تحقق له خلالها من تفوق وتميز.. وإذا تناولنا عبدالمنعم الصاوى روائيا فإن له كل سمات التفرد حيث اختص معظم أعماله بمعين يشهد الجميع بندرته فى تاريخ الرواية العربية وهو إن صح التعبير «أدب القرية» حيث استطاع أن ينقل البيئة القروية بما تحمله من قيم نبيلة ومُثل عليا قلما تجدها فى المجتمع الحضرى، وقد شاركه فى ذلك أترابه ومنهم عبد الحليم عبد الله وعبدالرحمن الشرقاوى وبعدهما الراحل خيرى شلبى، ولكن تأتى روائعه فى خماسيته الشهيرة (الساقية) والتى ساهمت فى صنع نهضة التليفزيون المصرى حين كان وليدا على مستوى العالم العربى فى مطلع ستينيات القرن الماضى، حيث قدم من خلاله مسلسلات الخماسية ومنها الضحية والرحيل والنصيب والتوبة وإن كان لم يسعفه القدر ليكمل خامس روايات هذه الخماسية الرائعة وهى (الحساب) والتى غادر الدنيا قبل اكتمالها ولم تقتصر إبداعاته الروائية على هذه الخماسية ولكن لم تنل معظمها ما نالته من ذيوع وشهرة وذلك لاتساع رقعة المشاهدة فى مجتمع كان لم يزل أميا تأتى القراءة فى مؤخرة اهتماماته ومن هنا فإن الواجب يحتم على نقاد هذه الأيام إلقاء مزيد من الضوء على أدب عبدالمنعم الصاوى بدراسات نقدية تقدم للرجل بعضا من حقه فى الإنصاف وما يستحقه من تقدير. *** ومن وقد كان الصاوى سّباقا لقالب روائى غاية فى الصعوبة، وهو الرواية ذات الأجراء المتعددة، حيث لم يُقدم عليه إلا أصحاب المواهب الكبيرة ومن هنا جاءت ندرته حيث لم يشاركه الإبداع من خلال هذا القالب سوى نجيب محفوظ بثلاثيته الشهيرة.. وإذا كان هذا الأديب الكبير يلاقى تقاعسا فى تناول إبداعاته الرائعة فإن ذلك يلقى واجبا حتميا على عاتق نجله الأستاذ محمد عبدالمنعم الصاوى الذى أنشأ صرحا ثقافيا مرموقا أطلق عليه «ساقية الصاوى» تيمنا بخماسية والده الأديب الراحل وهذا الواجب ينطلق من ضرورة تعريف الأجيال الحالية والتى لم تشهد ما أبدعه عبدالمنعم الصاوى من روائع أدبية يؤرخ بمعظمها لنهضة الأدب العربى لأكثر من نصف قرن كامل. *** رحم أهم سمات شخصية عبدالمنعم الصاوى بعيدا عن كونه رائدا من رواد الأدب العربى هو تنوع ملكات هذه الشخصية وخاصة فيما يتعلق بجانب العمل الصحفى، حيث كان عبدالمنعم الصاوى رئيسا لتحرير صحفية الجمهورية، كما انتخب نقيبا للصحفيين لدورتين متتاليتين وبنجاح ساحق لما كان يتمتع به من احترام كبير فى الوسط الصحفى، وكذلك أنشأ أول وكالة أنباء عربية «وكالة أبناء مصر» وكان له فضل تأسيس ورئاسة أول اتحاد للصحفيين الأفارقة، ولم تقتصر اسهاماته على ذلك وإنما امتدت إلى العمل السياسى الذى مارسه بتجرد واحترام لذاته دون تزلف أو مداهنة ابتغاءً لمنصب ذائل أو رغبة فى مكانة مرموقة هو الأجدر بها بعيدا عن ألوان النفاق. ومن هنا حظى بتقدير الرئيس السادات فكان وزيرا للثقافة والإعلام فى وزارة الراحل ممدوح سالم، كما كان عضوا فى الدورة الأولى لمجلس الشورى وقبلها وكيلا لمجلس الشعب.. وعن إيمانه المطلق بعدالة القضية الفلسطينية فلم يدخر وسعا فى الدفاع عنها، حيث وافته المنية وهو يلقى خطابه الشهير فى بغداد مؤيدا لهذه القضية العربية ومطالبا بحق تقرير المصير للفلسطينيين وإنشاء دولتهم المستقلة ذات السيادة.. الله الأديب الكبير عبدالمنعم الصاوى لقاء ما قدم لأمته العربية من جليل الأعمال على مختلف الأصعدة وسائر المجالات.. ذلك النموذج المصرى المحترم.