«رب أخ لك لم تلده أمك» ذلك القول الشائع فى المأثورات العربية والذى يقطر رشدًا وحكمة لم أجد غيره توصيفًا مناسبًا للعلاقة الأخوية التى كانت بيننا عبر قرابة الأربعين عاما.. وذلك حين كنت طالبًا بقسم الإخراج بالمعهد العالى للسينما فى أوائل سبعينيات القرن الماضى وكان هو عائدًا من الاتحاد السوفيتى السابق بعد بعثة علمية نال خلالها شهادة الدكتوراة فى الإخراج السينمائى وعيّن مدرسًا لمادة الفيلم التسجيلى.. إنه الأستاذ الدكتور مدكور ثابت الذى غادرنا إلى دار البقاء مساء السبت الموافق الخامس من يناير 2013 إثر أزمة قلبية حادة، حيث فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها بعد صراع مع المرض دام أكثر من عشر سنوات. وقد كان خلالها الراحل الكريم مثلًا حيًا للامتثال لقضاء الله والإيمان المطلق بمشيئة الحق سبحانه وتعالى.. وحين أتحدث مرثيًا صديقى العزيز الغالى مدكور ثابت فإننى أتحدث عن نموذج إنسانى قلما يوجد مثيله بين البشر فقط كان يحمل بين جنباته قلبًا يمتلئ حبًا لكل الناس وكان خاليًا من كل الأحاسيس السلبية التى أصبحت تسود العلاقات بين بنى آدم فى زمن عزَّ فيه الوفاء والإخلاص وحلت محلها الأحقاد والضغائن. ومن أبرز ما كان يتحلى به مدكور ثابت هو الزهد فى مجد شخصى يأتى على حساب ما يعتنقه من قيم ومُثل عليا ومن هنا كانت إسهاماته فى صنع الفيلم التسجيلى، ذلك النموذج الفيلمى البناء الذى استطاع مدكور أن يقدم من خلاله جرعة ثقافية للجماهير، خاصة أن بداية احترافه للإخراج السينمائى جاء مواكبا لإنحدار وهبوط ساد الفيلم الروائى ورغم ما يحققه هذا النوع السينمائى من شهرة وذيوع وقبلهما مكاسب مادية إذا ما قيس بالفيلم التسجيلى والذى عادة ما تتولى إنتاجه جهات قومية همها الأوحد تقديم المعلومة الثقافية الراقية نظير أجر زهيد لا يتجاوز مئات الجنيهات، وذلك فى الوقت الذى يتقاضى أترابه من مخرجى السينما الآلاف التى قفزت فى الفترة الأخيرة إلى خانة الملايين. *** وقد ولد مدكور ثابت فى الثلاثين من سبتمبر عام 1945 بقرية كوم أشتاو بمحافظة سوهاج التى ظل حتى وفاته يحمل من نشأته القروية والصعيدية قيما لم يتخل عنها وظل يعتبرها دستورا أخلاقيا - إذا صح التعبير - كانت دائما هى محور تعامله مع زملائه وتلاميذه وأصدقائه وقبلهم جميعا جمهوره الذى بادله حبا بحب واحتراما باحترام. وقد تخرج مدكور ثابت فى المعهد العالى للسينما 1965 وهو لم يبلغ بعد العشرين عاما وكان ترتيبه الأول على دفعته مع مرتبة الشرف الأولى وعيَّن معيدًا بالمعهد وكان من أوائل الخريجين الذين انضموا لهيئة التدريس بأكاديمية الفنون.. واستمرت مسيرته الأكاديمية حتى صار أستاذا للإخراج إلى أن تم اختياره رئيسا للمركز القومى للسينما عام 1993 حتى 1999 وقد كانت هذه السنوات الست سنوات فارقة فى عمر هذا المركز، حيث اهتم بإصدار سلسلة ملفات السينما والتى تجاوزت السبعين ملفا لتصبح مكتبة سينمائية رائعة المستوى، حيث تضمنت مختلف الدراسات حول الفن السينمائى سعيًا وراء الارتقاء بهذا الفن الذى تعتبر مصر إحدى الدول الرائدة للسينما فى العالم، حيث تجاوزت صناعتها فى مصر القرن الكامل.. ومن أبرز قراراته التى أحدثت جدلا نقاشيا فى هذه الفترة قراره بإلغاء المهرجانات الاحتفالية التى لا طائل من ورائها إلا إنفاق الميزانية هباء دون عائد ثقافى واستبدل هذه الميزانيات بميزانية رصد من خلالها إصدارات بناءة يستفيد من خلالها صُناع الفيلم السينمائى على اختلاف ألوانه ونوعياته مؤكدا أن الثقافة السينمائية الراقية هى السبيل الأوحد للارتقاء بالسينما المصرية وإقالتها من عثراتها الراهنة التى كانت سببا فى هبوط مستواها حتى لجأ الجمهور إلى أفلام الأبيض والأسود رافضًا الأفلام الحديثة التى تمتلئ بكل صنوف الإسفاف والابتذال الأخلاقى. *** وفى عام 1999 ترك رئاسة المركز القومى للسينما بعد أن حقق نشاطا ثقافيا كان يشكل لديه أملا كبيرا ليتولى الإدارة العامة للرقابة على المصنفات الفنية والتى شهدت فى عهده طفرة كبيرة فيما أتيح لمبدعى السينما من حريات للإبداع والبعد عن التابوهات الرقابية. ما دامت الأفلام تحمل بعدا ثقافيا يضاف إلى ذهنية ووجدان جماهير السينما وقد استمر منصبه قرابة السنوات الخمس كانت خلالها الرقابة حصنا للجماهير تقيه ما كان يحدث قبل ذلك من زلل وسقوط أخلاقى كان يرفضه الراحل الكريم شكلا ومضمونا. ثم تولى بعد ذلك رئاسة أكاديمية الفنون لمدة عامين بقرار من وزير الثقافة الذى أراد بقراره تقويم الأجيال الجديدة من المنبع أى منذ سنوات دراستهم ليشيعوا حين تخرجهم أفلاما تحرص على تقديم الفيلم السينمائى كرافد مهم من روافد الثقافة المحترمة بعيدا عن الانزلاق القيمى الذى ساد فى هذه الفترة. *** وإذا تحدثنا عن الجانب الإبداعى فى حياة د. مدكور ثابت فإن مؤلفاته السينمائية تأتى فى مقدمة هذه الإبداعات وهى على سبيل المثال لا الحصر كتبه «النظرية والإبداع فى سيناريو وإخراج الفيلم التسجيلى» و«كيف تكسر الإيهام فى الأفلام السينمائية» و«ألعاب الدراما السينمائية» وكما أصدر موسوعة «نجيب محفوظ والسينما» فى مجلدين كبيرين لما لنجيب محفوظ من إسهامات سينمائية فى مجال السيناريو ورواياته التى تحول معظمها إلى أفلام سينمائية هى محطات إبداعية تؤرخ للفن السينمائى المصرى. ومن أفلام مدكور ثابت التسجيلية يبرز فيلم «سحر ما فات فى كنور المرئيات» ذلك الفيلم الذى يؤرخ لما حدث فى مصر عبر مائة عام وقد تضمن من اللقطات النادرة التى رآها المشاهد المصرى لأول مرة، حيث جمعها الراحل فى سبع سنوات كاملة بتكلفة قدرها مائة ألف دولار، وقد ساهمت جهات مختلفة فى تحمل ميزانيتها الباهظة ومنها قنوات دريم التى أخذت حق عرضها جماهيريا، وقد أثنى معظم النقاد على مادة الفيلم الثقافية والتى ساهمت فى تجميعها الهيئات العالمية كاليونسكو وغيرها، بحيث أصبح هذا الفيلم وثيقة تاريخية مصورة تخلد مبدعها وتذكر بدوره كأحد مثقفى مصر المرموقين. *** إن قائمة الإنجازات المهمة التى أبدعها د. مدكور ثابت تزدحم بشكل يجعل من الصعوبة بمكان إدراجها فى هذه العجالة السريعة، ولكن حسبه أن مات بضمير مستريح، حيث أدى ما رآه واجبا عليه حيال وطنه الذى أخلص له العطاء وبدورنا نحن تلاميذه وأصدقاءه سوف نذكره بالخير دائما لما كان يتحلى به من تواضع جم وخلق رفيع ويجعلنا نجزل له الدعاء بالرحمة والمغفرة جزاء ما قدم لنا ولمعشوقته التى أفنى عمره من أجلها.. مصر العظيمة.