مصر التى يعرفها تنهض رغم الطوفان، تحاول، تفتش عن قوتها، فتوتها، تقاوم، تفك أسرها، تنتزع نفسها من الكابوس، د. فريد فاضل ذلك الفنان الصافى الجميل يقدم لنا فى كل واحد من معارضه مفاجأة، ومفاجأة معرض اليوم الذى تم افتتاحه منذ أيام بمتحف محمود مختار تحمل لنا بشائر الخروج من الأزمة، العودة للإنسان المصرى الأصيل، الجذور، التراث، العودة لحضن مصر، و لذلك جاء العنوان شديد الإيمان بالوطن : "مصر التى أعرفها ". و كأنه فى كل لوحة يقول: مصر التى أعرفها لن تموت أبدا، لن تسقط، لن تتوارى، لن تتخاذل، لن تكون مطية لأحد، لو كنت رئيسا للدولة لصنعت من لوحات فريد فاضل، وآخرين من كبار الفنانين التشكيليين فى مصر وهم كثر بوسترات، وملأت بها الشوارع، والميادين، والأزقة، والكبارى ومحطات السكة الحديد والمترو، حتى جدران البيوت فى الريف، إننا بحاجة فعلا لنشاهد تلك الوجوه المتفائلة، الابتسامة الراضية، السكينة الساكنة فى قلب الفنان والتى تشع من كل لوحاته . أذكر إيهاب الأزهرى رحمه الله وهو يشرح لنا قيمة الجمال فى إحدى محاضراته بكلية الإعلام، هذا الرجل حكى لنا حكاية سيدة مصابة بمرض عصبى، و حينما تداهمها النوبة تتحول إلى شخص آخر، تصرخ، تحطم كل ما يصل إليه يدها، وحينما تنتهى هذه الفترة تبكى و هى ترى كل هذا الحطام و الخراب حولها، الزوج المحب توصل إلى فكرة، فجاء بأحد الفنانين و طلب منه أن يرسم لها لوحات فى أوقات السعادة و الانشراح، و جعل يصنع لها تلك الجداريات حتى غطت أنحاء المنزل، فكانت عندما تصاب بحالة التشنج العصبى، وتبدأ فى تكسير محتويات المنزل تطالعها صورها الجميلة من كل ركن وحائط، تشعر بالخجل وتتمسك بصورتها الحلوة، الرقيقة، الوديعة، حتى شفيت تماما، و هدأ البيت . ونعود إلى فناننا الجميل صاحب المعرض الذى قدم أكثر من 60 لوحة موزعة على قاعتين، وجعل الأولى لأولاد البلد والثانية لبنات الريف، وتتعجب من كل هذه الشخصيات التى رصدها فريد فاضل، وتتذكر معارضه الثرية السابقة، النوبة، بحرى، هنا القاهرة، وغيرها، ويأخذك الغرام ويطير بك فى أنحاء بلادنا الساحرة، وناسها الكريمة العظيمة الودودة . ربما من الضرورى أن نعرف أن فريد فاضل أسيوطى، ولد عام 1958، وتخرج فى كلية الطب عام 1981، وهو حاصل على دكتوراه بعنوان ( الكيمياء المناعية لرقعة القرنية المرفوضة ) جامعة القاهرة 1998، أما حكايته مع الفن فهى ترجع إلى عام 1971 حيث أقام معرضه الأول للتصوير بالألوان المائية بقصر ثقافة قصر النيل وكان عمره آنذاك ثلاثة عشر عاما، وهو يقدم معرضاً سنوياً كان آخرها العام الماضى بقاعة بيكاسو وقدم فيه لوحات متأثرا بأحداث ثورة يناير . ومن أجمل المعارض التى أقامها معرضه الخاص عن النوبة، والذى أحدث وقتها ضجة إعلامية بسبب ثراء الموضوع وتفاصيله الجمالية الرائعة التى أدهشت المشاهدين، كانت لوحاته بمثابة إعادة اكتشاف لهذا العالم المتميز الخاص جدا، مجتمع النوبة، وعندما سئل: النوبة ليه؟ قال: النوبة جزء عزيز جدا من تراب مصر، وللأسف أدى تجمع المياه خلف السد العالى فى الماضى إلى غرق كثير من الأراضى الزراعية والقرى النوبية، وتمت محاولات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن أهم ما تم إنقاذه كان الآثار وبعض المعابد الفرعونية الهامة من بينها أبو سمبل، الدر، العمدة، مقبرة فينوس، كلابشة، وبيت الوالى. لكن للأسف التراث المعمارى النوبى فى البيوت النوبية اندثر، واستطاعت مجموعة من الفنانين المصريين بتكليف من وزير الثقافة آنذاك الدكتور ثروت عكاشة أن يذهبوا للنوبة لتسجيل مظاهر حياتها وتراثها قبل أن يندثر، من بينهم سيف وأدهم وانلي، حسين بيكار، تحية حليم، وآخرون، كما سجلها بعض المصورين الفوتوغرافيين من بينهم فتحى حسين مصور الأهرام، الذى صور التهجير، ومارجو فييو، وعبد الفتاح عيد، وحسن فتحى المعمارى الكبير الذى صور مظاهر العمارة النوبية، وهو ما جعل لدينا أرشيفا هائلا من الصور الفوتوغرافية للنوبة القديمة بعضها نشر، والبعض الآخر لم ينشر، يضاف للجهود السابقة ما قدمه المصورون الأجانب وعلى رأسهم جور جبسر الذى أصدر كتابا عن النوبة تحت مسمى النوبة أرض الذهب على النيل .. ويتحدث عن رحلته الأولى للنوبة فيقول: كانت أول رحلة لأبى سمبل عام 2009 وانتهت بعمل معرض بين عشق مصر والجنون بها، وتولدت فكرة المعرض فى هذه الرحلة، وقد اقترح صديق إنجليزى أن أسميه البحث عن النوبة وهو ما فعلته بالفعل.