قبل أيام كنت مرافقاً لوفد من المثقفين والصحفيين المصريين فى زيارة لأرمينيا، وتزامن ذلك مع احتفال أرمينيا بالعيد الحادى والعشرين لاستقلالها عن الإتحاد السوفيتى، وأرمينيا دولة صغيرة وجميلة، لها تاريخ طويل وامتداد حضارى عميق، تجمع بين الشرق والغرب، لكنها تتفرد بروحها التى تعشق الموسيقى والشعر والعمارة والكتاب. خلال الزيارة التقينا بوزيرة الثقافة هاسميك بوغصيان ،والتى أكدت على أن العلاقات المصرية الأرمينية تطورت بشكل كبير على مختلف الجوانب وخاصة فى الجانب الثقافى، فقد أحيت مكتبة الإسكندرية عام 2011 ذكرى مرور 500 عام على ظهور أول طباعة أرمينية، وتسنى لنا خلال الزيارة والرحلات إلى المتاحف والمعابد والكنائس، معرفة قيمة الكتاب ومكانته فى الثقافة الأرمينية التى حاكت حوله القصص والأساطير، وربما يأتى مثل هذا الاهتمام لإحساسٍ بالخوف على الذاكرة التى تعرضت لمحاولات المحو والإلغاء وقت المذبحة التى ارتكبها الأتراك تجاه الشعب ألأرمنى، وفى مثل ذلك تغدو الكتابة نوعاً من الدفاع عن الذات و«النضال ضد الموت»، والكتاب فى مثابة الصورة التى تدون الذات، يتلاحظ فى الأرمينيين تمسكهم الشديد بدينهم، فبالرغم من أن الدولة تتجاور حدودها بدول أغلبها إسلامية إلا أن الدين الإسلامى ينحسر بشدة داخل ذلك المجتمع، فلا تجد مثلاً أى دور دعوى للأزهر داخل الدولة، كما أن المسجد الأزرق وهو المسجد الأشهر بالعاصمة يعد مسجداً شيعياً، ويمثل المسلمون نسبة لا تتعد 0.1% من تعداد السكان حيث لا يتعدى عددهم الألف نسمة حسب إحصاءات مراكز المسح الديموغرافى، مصر تشكل رمز وقيمة وحماية بالنسبة للشعب الأرميني، فكل مكان تذهب إليه تجد الترحاب والتقدير من أبناء الشعب الأرمينى فى الشوارع والأسواق والمقاهى والمطاعم، يحملون لمصر العرفان والتقدير ويدركون أن مصر كانت من أوائل الدول التى ناصرت قضاياهم وأوت مشرديها من البطش التركى قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وحافظت على تراثهم، ويقدرون أن مصر كانت أول دولة عربية فتحت أبواب العلاقات الدبلوماسية إبان الاستقلال عام 1993. ولفرط اهتمام المدينة بالكتاب، اختارت أجمل الأماكن المطلة لإقامة متحف المخطوطات الذى يمثل آية فى العمارة والفن، وهو يمتد على مساحة 12 ألف متر مربع، ويحتوى على كنوز ثمينة فى جميع لغات العالم القديمة والحديثة، ومنها مخطوطات عربية نادرة فى مختلف الفنون. وقد صُمم المتحف لحفظ الكتب ونجاتها حتى فى ظل حرب نووية، حيث تهبط الكتب إلى «قاصات» تحت الأرض. دار المخطوطات القديمة تعتبر أكبر مستودع للمخطوطات الأرمينية الثمينة فى العالم، إذ يضم آلاف المخطوطات من مؤلفات العصور القديمة والوسيطة للأدباء والعلماء الأرمن فى ميادين التاريخ والفلسفة والحقوق والطب والرياضيات والفلك والأدب والفنون. تلك المخطوطات المزخرفة فى معظم الأحيان بأروع المنمنمات، وفى الدار مئات المخطوطات بلغات شعوب الشرق، وخاصة العربية والفارسية. رمزية الكتاب فى ثقافة أرمينيا تعادل النفس والولد والذاكرة والحياة، فالأمهات اللواتى أُجبرن على اللجوء تحزمن بقماش حول أجسادهن، ووضعن أطفالهن على صدورهن والكتب على ظهورهن. الكتاب بالنسبة لأرمينيا هو كينونة تشتمل اللغة والهوية، ومما يُروى أن إحدى الأمهات لم تستطع -لكبر حجم الكتاب- أن تحمّله لواحدة من ابنتيها الصغيرتين، فاضطرت لقسمته إلى نصفين، وفى رحلة النفى والهجرة ضلّت كلٌّ من الفتاتين طريقها، وبعد وقت طويل، اهتدت إلى شقيقتها بنصف الكتاب جبل. أرارات، ثمرة الرومان، حجر خاتشكار، لعبة الشطرنج، كل هذا يمثل للشعب الأرمنى مسألة من مسائل الهوية التى لايمكن بحال من الأحوال التنازل عنها، فجبل أرارات – والذى يعتقد أن سفينة نوح عليه السلام قد رست عليه - بالرغم من وقوعه خارج الأراضى الأرمينية حاليا إلا أنه يمثل بالنسبة لهم أهمية كبرى فلا تكاد تخلو خليفة أى لوحة للفنان الأرمينى من هيئة جبل أرارات، أشجار ثمرة الرومان تنتشر فى كل بقعة من أرض أرمينيا وتمثل رمز وقيمة بالنسبة لهم، حجر خاتشكار احد الرموز الدينية والمنقوشة على أحجار أرمينية لا يكاد يخلو شبر فى أرمينيا من تلك الأحجار.