فى جو من الحرية والديمقراطية، للأسف تفتقده الساحة السياسية حالياً، وتحت عنوان «الدستور والحريات» عقد منتدى حوار الثقافات بالهيئة القبطية الإنجيلية مؤتمره السنوى بالعين السخنة مؤخراً بمشاركة أكثر من 250 من قادة الفكر والقانون وأساتذة الجامعات والقيادات الدينية الإسلامية والمسيحية والشباب والإعلام، يمثلون كافة أطياف المجتمع المصرى السياسية والثقافية والاجتماعية، لوضع تصور كامل عن الحريات التى يتمنى الجميع أن يتضمنها دستور مصر ما بعد ثورة يناير.وتباينت الآراء فى جو اتسم بالديمقراطية حول أفضل السبل لكى نعيش نسائم الحرية بعد هذه الثورة العظيمة، فمن رأى أن الحرية لا بد أن تكون مطلقة، ومن رأى أن الحرية المطلقة تقود للفوضى، وأنه يجب تقييدها، واختلف الحضور حول ضوابط التقييد، فمن رأى ذلك فى الضوابط الدينية، ومن رأى أنه يجب أن تقيد بتقاليد المجتمع والنظام العام، إلا أن الجميع اتفق على ضرورة أن ينص الدستور على حرية الرأى والتعبير والعقيدة والإبداع وحرية ممارسة النشاط السياسى والثقافى والفنى. بدأت الجلسة الافتتاحية التى أدارتها سميرة لوقا مديرة التنمية الثقافية بالهيئة، بكلمة للدكتورة ميرفت أخنوخ- رئيس مجلس إدارة الهيئة، رحبت فيها بالحاضرين وأكدت على أن الكرامة الإنسانية غير قابلة للامتهان، فجميع شعوب العالم تعترف للإنسان بصفته الإنسانية بحقوق التمتع بالأمن والعدالة الاجتماعية والمساواة، وهى حقوق أساسية للمواطن لابد أن تنظر إليها السلطات بعين الاعتبار. حريات حامورابى ومن جانبه، قال القس د. أندريه زكى مدير عام الهيئة القبطية الإنجيلية إن الهيئة، بصفتها إحدى مؤسسات المجتمع المدنى، تسعى جاهدة للتعبير عن رغبة المصريين من خلال دستور يعبر عن ثورة 25 يناير. واستعرض زكى تاريخ حقوق الإنسان بداية من سعى «حامورابى» لمنع ظلم الأغنياء والأقوياء للفقراء والضعفاء، ثم فى العصور الوسطى التى تميزت بثلاث سمات: اللا مساواة، والجماعية، والحماية،مشيراً إلى أن التاريخ البشرى لم يكن مشرّفًا نحو الحريات التى كانت محدودة ولم يتم التعبير عنها إلا فى مراحل متأخرة، لافتًا إلى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الذى صدر فى عام 1948. واعتبر زكى أن أهم الوثائق التى صدرت بعد ثورة 25 يناير هى وثيقة «الحريات» التى أصدرها الأزهر، حيث أكدت على ضرورة احترام العقيدة، وأن لكل فرد فى المجتمع أن يعتنق ما يشاء، وللأديان الثلاثة قداستها، وعدم المساس بهذه الأديان قولاً وفعلاً، كما أكدت على ضرورة الاعتراف بمشروعية التعدد ورعاية حق الاختلاف، وأن حرية الرأى والتعبير هى المظهر الحقيقى للديمقراطية. ثم بدأت أولى جلسات المؤتمر وأدارتها د. ثريا عبد الجواد أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة المنوفية، وتحدث فيها الدكتور محمد نور الدين فرحات الفقيه الدستورى الكبير وأستاذ القانون بجامعة الزقازيق، والذى دارت كلمته حول الحريات فى الدساتير المصرية حيث أكد على أن أحداً لا يجادل فى كون «مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع»، ولكن «لدينا مخاطر ممن لا يحسنون فهم الإسلام على أنه دين الحرية»، ولفت فرحات النظر إلى أن التحدى الحقيقى لمن سيكتبون الدستور المقبل هو صد هذه المخاطر. واستعرض فرحات مسيرة الحريات فى الدساتير المصرية لافتاً النظر إلى أن دستور 1923 اهتم بالحقوق المدنية والسياسية ولم يهتم بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أما مشروع دستور 1954 فقد وصفه بالامتياز وأنه «جيد الصياغة»، ووازن بين كافة الحقوق، وأشار إلى أن السنهورى باشا وضع نصاً فى مشروع دستور 54 يعطى حقوقاً متساوية للجماعات السياسية والثقافية والاجتماعية المصرية فى البث الذى تبثه الإذاعة المصرية التى كانت الوسيلة الوحيدة للإعلام وقتها، إلا أن هذا المشروع لم يعمل به، وتم الأخذ بدستور 1956 الذى كرّس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ولم يول اهتماماً بالحقوق السياسة والمدنية ولم تتحقق لا هذه ولا تلك، ثم جاء الدور على دستور 71 الذى كتبته لجنة تابعة للرئيس السادات وهو يحتوى على مواد رائعة فى الحريات ولكن مشكلته مثل الدساتير السابقة أن الدستور - (أى المواد المكتوبة والمنصوص عليها) - شئ، والدستورية أى الالتزام الفعلى من الدولة والمجتمع بتطبيق هذه النصوص - شىء آخر، وأكد فرحات أنه كان لدينا دائماً دساتير ولكن لم تكن لدينا دستورية حقيقية، وأوضح ان الدساتير لدينا كانت تستخدم كواجهة وكأنها أعلام ورايات للدولة ودليل على الاستقلال الوطنى دون أن يكون لها دور فى العلاقة بين الحاكم والمحكوم. واقترح فرحات أن يكون لمنظمات المجتمع المدنى حق الطعن دستورياً أمام المحكمة الدستورية العليا فى أى قوانين تنتهك الحريات العامة وحرية الفرد، كما اقترح وجود مؤسسات سيادية لوقف انتهاكات أية مؤسسة لحرية الأفراد أو التمييز بسبب اللون أو الدين. ثم تحدث د. حامد أبو طالب عميد كلية الشريعة والقانون الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية، فأوضح أنه بعد قيام ثورة 25 ونجاحها، حدث تشابك فى المفاهيم وقامت فرق وأحزاب متعددة ومن الطبيعى أن تختلف الرؤى وتتنوع حول مستقبل مصر وكل فرقة لها وجهة معينة، والحقيقة أنه إذا تحولت اجتهادات هذه الجماعات إلى تنافر فان حصادها سيكون مراً على مصر والمصريين، فجاءت وثيقة الأزهر التاريخية «حول مستقبل مصر» بالتعاون مع عدد كبير من المثقفين لتكون جداراً يحمى أساسيات الشعب المصرى وثوابته ولتكون ميثاق شرف يلتزم به الجميع اثناء وضع الدستور القادم. من جانبه أدان القس د. عاطف مهنى، مدير كلية اللاهوت الانجيلية، ما اسماه بتزاوج الدين بالسياسة الذى يتم استغلاله لفرض القيود على الحريات العامة، مؤكدا أن علاقة الدستور بالحريات علاقة عضوية لأن الوثيقة الدستورية تعتبر عقداً اجتماعياً يكفل جميع الحقوق والواجبات. مؤكدا على أن الدين قد يستخدم لدعم الحريات لأنه يحض على العدل والكرامة والمساواة، وقد يستخدم فى قمع الحريات وصراعات دينية تهدر دماء الأبرياء. جلسات العمل عقب انتهاء الجلسة الافتتاحية تم تقسيم الحاضرين إلى خمس مجموعات عمل للخروج برؤية مشتركة حول موضوع المنتدى من خلال الإجابة عن 5 أسئلة طرحت على أعضاء كل مجموعة وجرت المناقشة حولها وتباينت الآراء على النحو التالى: كان السؤال الأول يدور حول كيف يمكن أن يكون دستور مصر تعبيراً عن مطالب الثورة؟ وماهى المبادئ التى يجب أن يتضمنها الدستور لتحقيق 4 أهداف تتمثل فى العدالة والحرية والكرامة الإنسانية ومدنية الدولة؟ فمن ناحية العدالة أكد الحضور على أنها تعنى المساواة بمعنى أن يكون الجميع أمام القانون سواسية بصرف النظر عن الدين أو العقيدة أو الجنس أو اللون، مشددين على أن العدالة تتحقق من خلال عدم التمييز الدينى او النوعى او العرقى، مع ضرورة تمثيل كافة شرائح المجتمع تمثيلاً عادلا، وأكد الجميع على أنه حينما تتحقق المواطنة ستتحقق معها العدالة تلقائياً ويحصل كل ذى حق على حقه. أما بالنسبة للنقطة الثانية المتمثلة فى الحرية فقد تباينت الآراء حول هذا الموضوع. ففى حين رأى البعض ضرورة أن يضمن الدستور القادم كل الحريات بدون قيد أو شرط، رأى فريق آخر ضرورة أن تكون الحريات مقيدة بما لا يخالف الشرائع الدينية ومبدأ المساواة، فى حين رأى البعض الآخر أن الحرية عموماً يجب أن تكون مسئولة وليست مطلقة، فالحرية من غير قواعد تصبح فوضى، ورأى آخرون ضرورة أن تكون الحرية بما لا يخالف تقاليد المجتمع والنظام العام فى السلوك. أما الكرامة الإنسانية فقد أكد الحاضرون على أنه لا يمكن الحديث عن الكرامة بدون مراعاة الدستور للمشكلات التى تحول دون ايجاد الحلول المناسبة لثلاث مشكلات أساسية وهى الفقر والجهل والمرض، فى حين شدد البعض على احترام حقوق الإنسان بما يكفل الكرامة الإنسانية، مؤكدين على أن تقييد حرية الفرد يعنى إلغاء كرامته. أما مدنية الدولة فقد أكد الحضور على ضرورة فصل الدين عن الدولة وعدم استخدام الدين فى السياسة. وأشار البعض إلى أن الدولة الدينية لم ترد عند المسلمين الأوائل مشددين على أن الرسول الكريم أسس «المدينة» ومنها تأتى المدنية ولم يقل دولة الإسلام، وأكد آخرون على أن الإنسان مدنى بطبعه وأصله والدين هو المدنية والخطأ فقط «فيمن يسلط نفسه على الناس حكماً»، وأكد الحضور على أن تكون المرجعية إلى الأزهر الشريف والكنيسة كرأى معتدل ووسطى. أما عن السؤال الثانى والذى جاء عن المبادئ والحقوق والواجبات التى يجب تناولها بشكل مفصل فى الدستور بحيث تمنع المشرع من وضع قيود لها فى القوانين، فقد انتهت المناقشات داخل المجموعات على أهمية الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، مشددين على ضرورة عدم تعارض نصوص القوانين مع الدستور، وأن يكون مبدأ المواطنة أساسى فى الدستور، وكذلك على ضرورة أن يرسّخ الخطاب الدينى هذا المبدأ والنص صراحة فى الدستور على حرية الرأى والتعبير والعقيدة وتحديد هوية الدولة، وكذلك الحد من سلطات رئيس الدولة. أما عن إجابة السؤال الثالث والذى كان يدور حول كيف يمكن أن يعبرالدستور عن الحريات التالية: العقيدة والتفكير والتعبير والإبداع؟ أكد الحضور فى البداية على ضرورة تبسيط نصوص الدستور وكتابتها بشكل سهل وسلس لكى تصل إلى البسطاء متخذين من دستورى جنوب أفريقيا والهند مثالاً على ذلك، وشدد البعض على ضرورة ألا تقوم المؤسسات الدينية بالتوجيه للآراء السياسية، مع تحديد العلاقة بين الدولة وهذه المؤسسات، وضرورة اتاحة حرية الاتصالات بكافة أشكالها وعدم المصادرة والرقابة إلا من خلال أمر قضائى وأيضاً إتاحة حرية التعبير عن الرأى دون تقييد، وكذلك حرية اعتناق العقيدة بصورة كاملة، ورأى البعض أن العقيدة أمر داخلى يجب ألا يطالعه أحد، وشدد الحضور على ضرورة أن توفر الدولة للمواطنين حرية بناء دور العبادة وممارسة شعائرهم الدينية بصرف النظر عن معتقداتهم. وكان السؤال الرابع يدور حول النظام الأمثل لمصر فى الفترة القادمة. وهل يكون رئاسياً أم برلمانياً أم مشتركاً؟ وعلى الرغم من أن معظم الآراء داخل المجموعات اتفقت على النظام المشترك فإنه كان هناك تعدد فى الآراء خاصة أن البعض رأى عدم الأخذ بالأنظمة الثلاثة ووضع نظام خاص بالشأن المصرى، بينما أكد آخرون على أنه ليس مهماً نوع النظام ولكن المهم تحديد المسئوليات والاختصاصات وضرورة وضع ضوابط فى الدستور حتى لا يتحول أى نظام إلى نظام ديكتاتورى سواء كانت ديكتاتورية رئاسية أم برلمانية، فى حين وفى مفاجأة غير متوقعة أيد عدد ليس بقليل النظام الرئاسى خاصة فى المجموعات التى شرح فيها الخبراء الأنظمة الثلاثة. أما السؤال الخامس والأخير فكان يدور حول كيف يمكن أن نحمى ونضمن فعالية نصوص الدستور. وقد وضع المشاركون فى المؤتمر عدداً من البنود التى يمكن أن تحمى نصوص الدستور المقبل يمكن تلخيصها فيما يلى: عدم تغيير مواد الدستور من خلال الأغلبية فى مجلس الشعب، الاستفتاء الشعبى على الدستور، أن تكون المحكمة الدستورية هى المرجعية لتفسير نصوص الدستور، مع وجود مجلس أعلى للدستور.. تعقيبات ? أشار الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية، إلى أن الإسلام أعطى حريات واسعة للجميع، وتساءل: لماذا لا نطهّر السياسة حتى تصبح سياسة أخلاقية؟، مطالبا بفهم صحيح الدين، والبعد عن التأويلات فى الدين من أجل مصالح خاصة. فثورة 25 يناير جاءت لتحرير المجتمع، ووثب عليها البعض بفقه ليس فقهنا وأفكار ليست أفكارنا، ويريدون أن ينتقلوا بنا من فقه الأزهر إلى فقه وافد علينا. ? وردت الكاتبة الصحفية إقبال بركة، بأن الدين أرفع وأعظم من أن يتداخل فى السياسة، فالسياسة مستنقع ولا أمل فى إصلاح السياسية بالدين. ? أكد الكاتب الصحفى محسن حسنين رئيس تحرير مجلة أكتوبر أن مصر لديها ميراث دستورى كبير يمتد لسنة 1882، بل يمتد هذا التراث لأيام الفراعنة، وبالتالى يجب ألا نبدأ من نقطة الصفر، فالنصوص موجودة ولكن المطلوب تفعيل وتحصين هذه النصوص، وبالتالى يجب إدخال آليات جديدة عند إعداد الدستور الجديد، وأشاد حسنين بالشباب الواعد الذى حضر المؤتمر، مشيراً إلى انه إذا كانت مصر تمتلك هذا الشباب فإنها ستسير فى طريقها إلى الأفضل بإذن الله، كما أشاد بالجدية التى اتسم بها المنتدى فى مناقشة قضية من أخطر القضايا التى تواجهنا. وفى الجلسة الختامية التى أدارتها د.نهلة المدنى الخبيرة الإعلامية والتى أكدت على ضرورة تحرر الإعلام من القيود التى كانت تفرض عليه، شدد الأستاذ الدكتور أحمد شوقى أستاذ الوراثة بجامعة الزقازيق على أننا لا نريد إحداث تغيير فى جوهر مصر الوسطى المعتدل بعمقه التاريخى ولكننا نريد تغيير النظام للأفضل، ودمج المحلى بالعالمى فى مجال حقوق الإنسان، مشيراً إلى أن وثيقة الأزهر تحقق ذلك فهى وثيقة بنكهة مصرية وفيها البعد الإنسانى الذى يجمعنا مع غيرنا من البشر، من جانبه شدد القس محسن منير الأمين العام للمؤسسات التعليمية بسنودس النيل الانجيلى على أن الحرية يجب ألا تدخل فى بنود «الحلال والحرام» ولكن فى «الصواب والخطأ» الذى يحتمل الحوار، مشيراً إلى أن الحرية لا تحددها وجهة نظر فصيل بعينه مهما كانت أغلبيته بالبرلمان، فى حين أكد د. أحمد زايد على أن الباحث عن الحرية هو الشخص الباحث عن «المشقة» وعن مزيد من الآفاق حتى ولو تعرض لمزيد من المخاطر، وأخيراً شددت الدكتورة سامية قدرى أستاذ الاجتماع بكلية البنات جامعة عين شمس على أهمية الاحتكام إلى المعاهدات والمواثيق الدولية عند وضع الدستور مشيرة إلى ان هذا قامت به العديد من الدول الإسلامية. وفى النهاية يكتب لمنظمى المؤتمر أنهم نجحوا فيما فشل فيه مجلسا الشعب والشورى من تشكيل الهيئة التأسيسية حتى الآن، خاصة أن المؤتمر كان بالفعل صورة مصغرة لمصر حيث ضم كل أطياف المجتمع المصرى الاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية، عبر كل هؤلاء – بحرية كاملة وفى مناخ ديمقراطى حقيقى – عن آرائهم وتطلعاتهم لمصر ما بعد الثورة، بحيث يمكن القول بأن المؤتمر كان بحق هيئة تأسيسية شكّلها المجتمع المصرى – بعيداً عن التطاحن الحالى للقوى السياسية والحزبية – وليثبت أهمية مؤسسات المجتمع المدنى – فى تحقيق أهداف الثورة من حرية.. كرامة.. عدالة اجتماعية.