كانت الصورة على بساطتها دالة وموحية حتى عند أولئك الذين رفضوها مفترضين صعوبة تحققها فى الواقع ولو صدفة.. الصورة تم تداولها والتشارك فى نشرها على صفحات موقع التواصل الاجتماعى «الفيسبوك» خلال الأسبوع الماضى وتصور شابا فى مقدمة الصورة وقد أعطى ظهره لحاجز من السلك الشائك والمتاريس التى تفصل جنود الجيش الذين يحرسون مبنى وزارة الدفاع عن الذين يحاولون اقتحام هذا السور ، بينما يشير سهمان إلى أن الشاب هو أخ لأحد هؤلاء الجنود يقضى فترة تجنيده فى القوات المسلحة، وأتذكر أننى رأيت على وجه الشاب الذى فى مقدمة الصورة علامات الحزن والأسى بسبب الظروف التى قادته إلى هذه المواجهة التى تشبه دائرة النار المغلقة أو حلبة المصارعة التى ننازل فيها نحن المصريين بعضنا البعض فى مباراة تدور فى قفص لن يستطيع الواحد منا أن ينجو بنفسه أو يخرج منه قبل أن يتخلص من خصمه، أو كأن المصريين يعيدون اكتشاف علاقتهم ببعضهم البعض وعلاقتهم بوطنهم ودولتهم ودينهم. (1) عشرون عاما مضت على الأقل لم يكن فيها فقط النظام السابق الموهوم بسلطته ومصالحه يخّرب فى ضمائرنا ونفوسنا ويزرع الفتنة عن جهل بين المصريين، لكن كانت هناك أيضا مؤسسات وأفراد ممن ينتمون إلى ما يسمى بالمجتمع المدنى يمارسون بشكل منظم وممنهج هذا العمل، ونتيجة هذا العمل يمكنك أن تعاينها بنفسك الآن، فقط انظر حولك وحاول أن تجاوب عن الأسئلة الآتية: متى وكيف اكتشف المصريون أنهم طوائف وأشياع دينية موزعة على دوائر مختلفة، مسلمين ومسيحيين، سنّة وشيعة، أرثوذكس وبروتستانت وكاثوليك، إخوانا وسلفيين وجهاداً وقاعدة وجماعة إسلامية وغير مصنفين وغيرهم من الأقليات الدينية. .. ولماذا ومتى اكتشف أهل النوبة أنهم مختلفون عن أهل الصعيد والدلتا؟ أو اكتشف أهل سيناء أن لهم جذورا ليست كجذور باقى سكان الإقليم المصرى؟!.. ومتى اكتشف الشباب من مشجعى النادى الأهلى أن لهم رابطة تميزهم وتفصلهم عن الروابط المماثلة فى النوادى الأخرى ويصل الاختلاف إلى حد الخلاف مع مشجعى النادى المصرى البورسعيدى، وإلى حد الكراهية والاقتتال والقتل العنيف؟!.. ومتى ولماذا اكتشف المصريون أنهم متنافرون أيدلوجيا أو هكذا يجب أن يكونوا لتفرق الليبرالية والاشتراكية والحركات اليمينية ماجمعه الرب على هذه الأرض منذ عشرات المئات من السنين؟!.. هذه هى المستويات الظاهرة للخلاف ومجال الفتنة بين عامة المصريين.. وبغض النظر عن خطورتها فهناك مستويات أخرى أكثر خطورة يتم العمل عليها لزرع الفتنة بينها وبين بعضها البعض من جهة وبينها وبين الشعب من جهة أخرى، ويستمر العمل التحريضى المنظم فى هذا الاتجاه بدأب من أطراف خارجية وداخلية، ومنذ زمن ليس بقليل (20عاما على الأقل) ويتوجه هذا العمل بشكل أساسى إلى ركائز الدولة ومفاصلها الرئيسية ومؤسساتها السيادية لإسقاطها تمهيدا لزرع مفاهيم جديدة وعلاقات جديدة لكيان أو كيانات سياسية تخدم المشروع الصهيونى فى المنطقة العربية، هذه الكيانات الجديدة توصف بأنها دولة الحد الأدنى وفيها يتقلص دور الدولة إلى أدنى حد ويكاد يقتصر على الحماية الأمنية لمواطنيها، وقيام هذه الدولة فى مصر تم التمهيد له خلال السنوات الماضية من خلال خلق ما يسمى ب «الدولة الرخوة» أو الدولة التى تتنازل عن سيادتها إلى مؤسسات أخرى خارجية.. وفى حالتنا فقد تنازل نظام مبارك عن جزء كبير من الهيمنة والتوجيه للاقتصاد المصرى إلى البنك والصندوق الدوليين وتنازل عن جزء ليس بقليل من الهيمنة الاجتماعية والقانونية لمنظمات الأممالمتحدة ومنظمات المجتمع المدنى الأمريكى والأوروبى هذا المجتمع الذى كان يحرك ذيوله فى الداخل المصرى مثل عرائس الماريونت ويغدق على هذه الذيول التمويل وتتلقاهم الفضائيات والصحف التى تروج للمشروع العولمى لتصنع منهم نجوما ونخبا، وفى قلب النظام نفسه كان هناك اختراع لجنة السياسات التى جمعت من شرق ومن غرب جماعة متنافرة من السياسيين والكتاب الصحفيين ورجال الأعمال.. وعلى الرغم من تنافرهم فقد اتفقوا على خدمة مصالحهم وتمرير أفكارهم سواء المتعلق منها بأيدلوجية معاداة المشروع القومى الإسلامى العروبى أو الترويج لمشروع العولمة والذى يعنى فى محصلته النهائية الارتماء فى حضن أمريكا وإسرائيل ومد جسور التطبيع معهما على كل المستويات وتبنى رؤيتيهما كاملة غير منقوصة وبصورة أخرى المفارقة الكاملة للماضى وصراعاته وخاصة الصراع مع إسرائيل وعلى هذه الخلفية يمكن أن نفهم هذا السعار الذى تبناه كُتاب ومفكرو ورجال لجنة السياسات للترويج وفرض التطبيع مع إسرائيل خلال السنوات الأخيرة قبل أن تطيح بها ثورة يناير ضمن عملية إزاحة الحزب الوطنى الذى تنتمى إليه هذه اللجنة. (2) زعزعة سيطرة الدولة المصرية على مؤسساتها وخلق أسباب للصراع بين المصريين هو الوسيلة التى تقود فى النهاية لتفكيك الدولة المصرية وتقسيمها، هذا هو الأسلوب الذى اتبعه الغرب فى تفكيك الاتحاد السوفيتى.. ولماذا نذهب بعيدا فهذا ما حدث قريبا فى الزمان والمكان وأنتج تقسيم السودان، فقط أذكّر أن سعد الدين إبراهيم وتلاميذه فى الإعلام والعمل الأهلى هم الذين تولوا خلال السنوات العشرين الأخيرة ملف ترسيخ الانقسام والفتنة وتأجيج مشاعر الغضب بين من أطلق عليهم الأقليات والطوائف والنحل والملل ليس فى مصر فقط ولكن فى الدول العربية كلها، كان سعد الدين يقيم المؤتمرات ويضع المؤلفات والنشرات ويطير إلى الخارج ليناقش مع راسمى المخططات من الأمريكيين والاتحاد الأوروبى أمور مصر الداخلية بداية من مشكلة تهجير أهل النوبة التى حدثت منذ عشرات السنين وحتى وضعية الجيش المصرى مابعد حدوث ثورات الربيع العربى التى لم تكن قد اندلعت بعد.. كان سعد الدين يقوم بالمهمة على أكمل وجه ويعلن عن هذا ويكتبه ونحن لا نقرأ وإذا قرأنا لا نفهم، أما الشعار المعلن للمهمة فهو الإصلاح والتحول الديمقراطى! وهل يمكن أن يعترض أحد على هذا الشعار؟!.. وهل كان الحزب الوطنى وهو يخرب فى مصر لا يرفع شعارات مماثلة ؟.. والدرس الذى يجب أن نعيه هو أن الشعارات ليست دائما عنوان الحقيقة ويجب بعد الآن ألا تخدعنا. (3) وخلال الأسابيع القليلة الأخيرة لاحظت من خلال متابعتى لما يتم بثه ويكتب على المواقع الأليكترونية لمؤسسات ال «الثنك تانك» التى تتوجه لمنطقة الشرق الأوسط والتى ساهمت بشكل كبير فى إنجاز ثورات الربيع العربى مثل «كارنيجى» وسوف تكتشف أن هذه الكتابات معنية بإيقاع الفتنة والتحريض بين المصريين ومؤسستى القضاء والجيش.. مقالات مدبجة وخطوات مدروسة ومحسوبة تعتمد على جزء من الحقيقة يتم توظيفه لتمرير كثير من الضلال، على سبيل المثال لاحظت أن هناك ترويجاً لمصطلح «الدولة العميقة» وهو يعنى باختصار الدولة المسيطرة أو الديكتاتورية، وفى خطوة أخرى يتم وصف المؤسسة العسكرية بأنها أداة هذه الدولة. الأدهى والأمرُّ أن أجد كاتبا مصريا يتلقف هذا المصطلح ويربطه بأحداث العباسية ثم ينزل ذما وتقطيعا فى جنود جيش الدولة المصرية العميقة بوجهها الفرعونى الديكتاتورى التى سحلت الودعاء الأبرياء فى العباسية.. إلى آخره، وأرى هذا المتحذلق وكأن هذا المسمى المصطلح القادم من الغرب قد أعجبه كما يعجب الواحد منا بحذاء أو بنطلون، ويريد أن يستخدمه من باب الشياكة أو الوجاهة، والمتحذلقين من كتاب الليبرالية الجديدة أيضا يبحثون عن هذا التفرد والشياكة والأناقة حتى ولو كان ما يروجون له ينذر بالخراب المستعجل ولا يحتمل هذه البغبغة! عن أى دولة يكتب هذا الدعى وعن أى جيش؟ وأى عقيدة عسكرية ينتقدها وهو الذى كان يبول على نفسه رضيعا بينما يخوض الجيش المصرى معاركه ومازال بينما يتمتع هو بالهواء المكيف ويرتشف «النسكافيه من المج» المخصص له ويدبج مقالته الثورية؟ أى فهم قاد هذا الكاتب وأمثاله من إعلامى الليبرالية الجديدة ليعاونوا الخارج فى محاولة إسقاط الجيش المصرى تمهيدا لتفكيك الدولة المصرية بدعوى طلب الحرية؟ هل ترانى أنا من عبيد الدولة العميقة؟!.. وهل ما حدث فى العباسية وفى محيط وزارة الدفاع وأمام ماسبيرو وفى محيط مديريات الأمن ووزارة الداخلية ينتمى إلى الديكتاتورية العميقة؟! إذا أردت أن تعرف الإجابة عن هذه الأسئلة فعد لقراءة المقال مرة أخرى قراءة عميقة من فضلك.