يبدو أن الإنجاز الأبرز للثورة المصرية فى الخامس والعشرين من يناير سنة 2011 هو إشاعة الوعى السياسى للشعب المصرى واستطاعته المؤكدة للخلاص من القيود التى كبلته فى الماضى عبر ثلاثين عاما كاملة لم يستطع منها فكاكا خلال الحكم البائد، بل كان تأثيرها فى ذلك عميقا، حيث جعلت من هذا الشعب العظيم البالغ تعداده قرابة التسعين مليونا محترفا للعمل السياسى الهادف والبنّاء، وقد كان فى السابق يوصف بأنه يمثل السلبية فى أوضح صورها ومن هنا كان يعتبر «حزب الكنبة» أو الأغلبية الصامتة أكبر حزب سياسى فى مصر وإن لم يحصل على ترخيص رسمى من لجنة الأحزاب وكذلك ليس له مقر حزبى إلا إذا اعتبرنا أن مساحة مصر بكاملها صارت مقرا له.. وقد تبدى لنا هذا الشغف الإيجابى المستحدث للمصريين بالاشتغال بالسياسة خلال هذه الأيام القليلة، حيث طفت على سطح الأحداث الأزمة الراهنة التى أحدثتها تداعيات القرار المفاجئ للمستشار عبدالمجيد محمود النائب العام بإلغاء حظر سفر المتهمين الأمريكان فى قضية التمويل الأجنبى وعددهم ستة عشر متهما، وقد تم تنفيذ القرار على عجل وسافر المتهمون إلى قبرص تمهيدا لنقلهم إلى الولاياتالمتحدة، ورغم أن هذه الخطوة الجريئة والصادمة فى نفس الوقت قد تمت فى إطار من القانون وقبله من الأعراف السياسية التى تطلق يد الساسة لممارسة ما يرونه فى مصلحة الوطن والمواطن معاً ولكن ذلك شريطة ألا تمس هذه الخطوة سيادة الدولة وهيبتها وأعتقد أن ما حدث من إجراءات كان يمكن لها ألا تحدث هذه الآثار السلبية لدى عامة الشعب ونخبته فى آن واحد، وذلك بشىء من المعالجة السياسية الذكية التى قد يتعين على أولى الأمر الالتزام بها وأول عناصر هذا الالتزام هو الشفافية والمكاشفة حتى لا تفاجأ الجماهير ويحدث هذا الدوىّ الذى انقلب إلى غضبة جماهيرية سادت كل أوساط الشعب المصرى على اختلاف طوائفه وأطيافه وأصبحت مادة إعلامية مغرية لكل برامج «التوك شو» على الفضائيات المصرية والعربية وسائر المواقع الإلكترونية على شبكة «الإنترنت» والتى انتهت جميعها إلى أن هذه الخطوة قد نفذت وفق منطق السياسيين الهواة، حيث غاب عنها أسلوب الاحتراف الذى كان يمكن معه تجنب التداعيات السلبية فى الشارع السياسى المصرى والذى يعتمد فى أولوياته على التمهيد وقياس الرأى العام حيال تلك الخطوة وحول آثارها فى هذه الظروف السياسية الملتبسة فى ظل ما أحدثته الثورة من تحولات فى البنية السياسية المصرية - إن صح التعبير - الآن. qqq ومن المثير للدهشة والعجب معاً أننا لم نر مسئولا واحدا يفسر لنا هذا الانقلاب الدرامى فى الموقف المصرى من هذه القضية أو يوضح لنا مستجدات منطقية تحتمل التحول الجذرى فى هذا الموقف خاصة بعد التصريحات النارية التى أطلقها د. كمال الجنزورى حين قال بكل صراحة ووضوح إن مصر لم تستخدم سوى حقها المشروع الذى يكفل لها كامل حقوقها فى السيادة للدولة والحفاظ على كرامتها وتوالت التصريحات المماثلة من وزيرة التعاون الدولى فايزة أبوالنجا وفى ذات السياق لتمر أيام قلائل ليكتشف الجميع إتمام هذه الخطوة الجريئة فى غيبة مجلس الشعب وذلك فى الوقت الذى بدأ اسم المستشار عبدالمعز إبراهيم يتردد كعرّاب لما أسماها البعض بالصفقة دون أن يظهر مسئول ليوضح ملابساتها والظروف التى أحاطت بها لتحيل الموقف المصرى من النقيض إلى النقيض، وهنا برزت تداعيات على قدر كبير من الخطورة حيث تمس قدسية القضاء والقضاة فى مصر حين انتفض شيوخ القضاة وشبابهم مدافعين عن هذه القدسية التاريخية للقضاء المصرى الذى كان أحد المعالم الشامخة للعدالة فى مصر عبر التاريخ.. ولم تقتصر انتفاضة القضاة على ذلك بل وصلت إلى المطالبة بعزل المستشار عبدالمعز إبراهيم وشاطرهم ذات الموقف نقابة المحامين «القضاء الواقف» ممثلة فى النقيب سامح عاشور، مطالبا بإقالة النائب العام الذى أصدر قرار رفع حظر السفر على المتهمين الأمريكان الستة عشر، وجاء موقف مجلس الشعب أكثر تشددا خاصة بعد أن حملت تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون بما يشى بضلوع الإخوان المسلمين فى إتمام هذه الخطوة ومن أجل ذلك تنعقد الجلسات البرلمانية لتأخذ موقفا صارما حيال كل من اشترك فى عملية تسفير المتهمين وقد يصل إلى سحب الثقة من حكومة د. الجنزورى. qqq وقد توالت المفاجآت التى لم تتضح الأمور بمقتضاها بل ازدادت غموضا ومنها آخر تصريحات الوزيرة فايزة أبوالنجا فى محاولة منها لتبرئة ساحتها فى هذا الصدد حين قالت إنها لم تعرف بخبر رفع قرار حظر السفر إلا من الصحافة والتليفزيون وتأتى المفاجأة الثانية حين يسافر فجأة المستشار عبدالمعز إبراهيم قاصدا العاصمة الكينية «نيروبى» فى الأسبوع الماضى مع وفد قضائى دون تبرير منطقى فى هذه الأجواء المضطربة ودون تقديم معلومة تفسر هذا السفر المفاجئ.. بينما يأتى تنحى الدائرة التى تنظر القضية برئاسة المستشار محمود شكرى ثالث المفاجآت والذى أعلن فى أسباب تنحى أعضاء الدائرة بالإجماع أنه فوجئ هو الآخر بقرار النائب العام ونفى فى نفس الوقت أية علاقة بعمل ابنه كمحام للسفارة الأمريكية بهذا القرار بعد أن تواترت أنباء صحفية فى هذا السياق. وإذا كان ما سقناه من مفاجآت هو غيض من فيض مما يجعلنا نتساءل: إذا كان الكل يتبرأ من علاقته بهذه الخطوة التى أحدثت كل هذا اللغط القانونى والسياسى.. إذن فمن هو الذى تمت على يديه مادام أن الجميع منها براء؟!.. أعتقد أن الإجابة لا تحتاج لذكاء مفرط.. إن المتهم الحقيقى هو اللهو الخفى أو ما يطلق عليه الطرف الثالث!!