الدستور هو الأساس الذى يقوم عليه البناء الجديد لأرض الكنانة.. والمؤسسات التشريعية والرئاسية والقضائية والجيش والشرطة والإعلام.. هى الأعمدة التى سوف يرتفع فوقها – وبواسطتها – هذا البناء.. بمشيئة الله، وكما كانت بعض هذه المؤسسات معاول للهدم والفساد والإفساد.. فإنها يجب أن تكون بعد 25 يناير أدوات للانطلاق نحو نهضة نراها قريبة.. وليست بعيدة أو مستحيلة.. كما يظن البعض. ولعل متابعة مرافعات النيابة فى محاكمة مبارك ومعاونيه تكشف لنا «بعض» جوانب أنشطة المافيا التى كانت تحكم مصر.. ونتطلع جميعاً ألا تعود الكرَّه.. بأيام مُرّة! فلم يكن أحد يتصور أن تصل المأساة ذروتها بالعمالة والخيانة العظمى لمصر.. لصالح الأعداء.. والأشقاء المزعومين أيضاً. وحتى يقوم البناء الجديد على أساس سليم وصحيح وقوى.. يجب أن نبدأ بصياغة الدستور.. انطلاقاً من الإعلان الدستورى الذى أقره الشعب فى استفتاء تاريخى غير مسبوق.. وانطلاقاً من رؤية وطنية وقومية وعربية وإسلامية واعية وراشدة.. لا ترهيب فيها.. ولا مغالاة. وهنا يجب التسليم بحق البرلمان الجديد المنتخب فى تشكيل لجنة وضع دستور مصر المستقبل.. وأيضاً حق البرلمان فى تحديد معايير وضوابط صياغته، فهذا حق مجلس الشعب وفقاً للإعلان الدستورى.. ولا يجب الافتئات عليه أو التغافل عنه.. مع الاحترام الشديد لكل الآراء الدستورية والقانونية وأيضاً السياسية المتلونة! إذاً.. فالإقرار بحق مجلس الشعب فى تنظيم عملية صياغة الدستور كاملة.. بضوابطها ومعاييرها وأعضائها.. هو المنطلق الأساسى لهذه الخطوة التى تشبه وضع «قواعد البيت».. وبيت مصر يتسع لكل أبنائها ولكل العرب.. كما أن صدرها يتسع ليشمل كل البشر.. هذه هى الرؤية الواعية التى يجب أن يضعها صائغو أساسنا الدستورى نصب أعينهم.. قبل بدء مهمتهم التاريخية الصعبة.. واليسيرة – أيضاً – وهى أشبه بالأداء السهل الممتنع الذى يضع فى اعتباره احتمالات كل التطورات.. الآنية والمستقبلية. ومن هنا أيضاً يجب التزام اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور بأسس الشخصية المصرية وجوهرها وروحها.. كما أوضحنا فى مقالنا السابق (الهوية المفقودة).. هذه الشخصية التى تشكلت عبر آلاف السنين.. ومازالت تحتفظ بأصالتها وقوتها ونسيجها المتين حتى الآن.. وهذا سر قدرتنا على تجاوز أعتى الأزمات التى مرت علينا خلال أصعب أعوامنا.. عام 2011.. حينما واجهنا الفتنة الطائفية والمذهبية والسياسية والأزمات الاقتصادية والمالية.. بكل شجاعة. وهنا نتعجب.. كيف استطاع الجنيه المصرى الاحتفاظ بقيمته أمام العملات الصعبة.. فى ظل هذه الدوامة العاتية؟! إنها منحة إلهية.. مثل منحة 25 يناير التى هى من صُنع الله.. قبل البشر. دستورنا الجديد يجب أن يحترم عقائد وأعراف وتقاليد كل المصريين.. فهذه أسس راسخة ندعو للحفاظ عليها وتأكيدها فى بنوده، وإذا كان البعض قد دعا إلى عدم مشاركة البرلمان فى الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور.. فهذا خطأ مرفوض.. لعدة أسباب.. أولها أن هذا حق دستورى أصيل للبرلمان.. ولا يليق برجل قانون أن يتحدث بما يخالف الدستور، إضافة إلى أن البرلمان الجديد يضم العديد من الخبراء والفقهاء القانونيين المخضرمين.. وتمكن إضافة بعض الخبراء المتخصصين من خارج البرلمان.. عند الحاجة، كما أن البرلمان ذاته يمثل كل القوى السياسية (الإسلامية والمسيحية والليبرالية والعلمانية.. إلخ) تمثيلاً يعكس الواقع إلى حد كبير، فصندوق الانتخابات لم يكذب ولم يتجمل.. ولم يُزوّر.. هذه المرة.. خلافاً لعادة استمرت طوال العقود السابقة! وإذا كان البعض يتحدث عن نوعية النظام السياسى الجديد الذى سوف تنتهجه مصر.. هل هو برلمانى أم رئاسى.. أم يجمع بين النموذجين، فإن الخيار الثالث هو الأرجح والأنسب، وسوف تطور العملية السياسية خصائص النموذج المصرى.. من خلال التجربة.. والممارسة الواقعية.. بما فيها من أخطاء وإيجابيات.. حدثت.. وسوف تحدث. وفى هذا الإطار.. فإن مؤسسة الرئاسة.. أياً كان نموذجها.. يجب أن تعاد صياغتها وهيكلتها من الألف إلى الياء، فقد كانت مكمن الداء.. ويمكن أن تصبح مصدر الدواء! نعم لقد تغّولت هذه المؤسسة وأصبحت سلطة ديكتاتورية فوق كل السلطات.. ونصَّب مبارك – فرعون مصر السابق كما قالت النيابة – نفسه سيداً للجميع.. رغم أنه كان ألعوبة فى يد البعض.. برضاه.. أو بالتحايل عليه!! لذا فإن مهمة الرئيس الجديد – وكذلك الأجهزة البرلمانية والرقابية – إعادة تنظيم مؤسسة الرئاسة بالكامل على أساس من الشفافية والنزاهة والكفاءة، نريد أن تكون قصور الرئاسة مفتوحة للبسطاء وليست حكراً على عِلية القوم. نريدها قصوراً شعبية تتحدث بالعامية.. وليست أبراجاً عاجية معزولة عن الناس.. بأسوار شاهقة.. ونظرات مارقة! فليفتح الدستور الجديد لنا قصور الرئاسة.. كى نراها ونشاهد الرئيس القادم الذى يجب أن نختاره وفقاً لمواصفات صارمة أولها أن يكون خادماً للشعب.. وليس سيفاً مسلطاً فوق رقبته.. وأن يكون قوياً بعلمه وثقافته وأمانته ومسلحاً بالكفاءة والنزاهة، ومن الأفضل أن يكون الرئيس صاحب «كاريزما» تليق بمكانة المنصب وبقامة مصر.. وإن كان هذا الشرط صعب المنال حالياً.. فسوف يتحقق مستقبلاً.. مع تطور التجربة الديمقراطية. ??? ومن أهم المؤسسات التى يجب أن يعطيها الدستور الجديد أولويته.. البرلمان بمجلسيه (الشعب والشورى). هذا البرلمان تحول – فى الماضى القريب – إلى كهف لمافيا تحكم وتتحكم.. تسيطر وتتجبر. مافيا أفسدت حياتنا بحجة أن مجلس الشعب هو سيد قراره! مع أن الشعب هو الذى صنع المجلس وجاء به، بمعنى آخر.. فإن الشعب هو سيد المجلس وليس العكس. لذا فإن الخطوة الأولى نحو برلمان جديد تكمن فى تشكيل هيئة المكتب (الرئيس والوكيلين) وفقاً لمعايير الكفاءة والنزاهة والخبرة والقدرة على تحقيق التوافق بين كل القوى والأحزاب المشاركة فى البرلمان. وهذه الخاصية الأخيرة حيوية.. فى ظل برلمان تسيطر عليه غالبية إسلامية، ورغم أن رئيس المجلس سوف ينتمى لهذا التيار أو يحظى بتأييده على أقل تقدير.. فإنه يجب أن يكون حكما عدلاً ويمنح الجميع فرصة متوازنة للتعبير عن آرائهم دون شطط أو غلو، بل إن المطلوب من البرلمان – بكل تياراته وأحزابه – أن ينهض بمصر ويرتقى بها ويعيدها إلى سيرتها الأولى.. دولة رائدة وقائدة فعلاً.. وهى قادرة على ذلك.. بل أكثر من ذلك. وحتى يتوافق البرلمان الجديد مع عصر ما بعد الثورة تجب إعادة هيكلة إدارته وتغيير دمائه الوظيفية.. فكراً وممارسة.. حتى يعبر عن ثورة 25 يناير، فليس من المعقول أو المقبول أن تظل نفس الوجوه التى عاشت وتعايشت مع الفساد والسرقة والنهب فى ذات مواقعها، نعم إنها عملية صعبة.. ولكنها مطلوبة.. بالتدريج وبالحكمة.. والحنكة أيضاً! وحتى يكتمل أداء البرلمان.. يجب تفعيل دور مجلس الشورى.. وألا يصبح مجرد ديكور أو مكان لتكريم بعض الشخصيات على حساب المصلحة العامة، فمن لا يستحق دخول الشورى – بالانتخاب أو بالتعيين – يجب أن يتوارى عن الأنظار.. وألا يختاره صانع القرار.. أصلاً! نريد أن يقوم «الشورى» بدور أكثر واقعية وفاعلية وأن يكون سنداً لمجلس الشعب وألا يتحول إلى مقهى لأصحاب المعاشات وكبار السن! وبناء مؤسسات الدولة يجب أن يمتد من خلال الدستور الجديد ليشمل السلطة القضائية والإعلامية والشرطة والجيش. وكلها من الأركان التى يقوم عليها البيت المصرى الأصيل، وهنا يجب أن نتذكر أن الجيش – رغم الأخطاء والتجاوزات الفردية – ظل هو الحامى للثورة وظل درع مصر القوية التى يجب أن نحافظ جميعاً عليها لضمان كيان الدولة.. وللانطلاق نحو مستقبل أفضل.. بمشيئة الله.