هل تعرف أن صناعة النشر التى كانت أولى الصناعات المصرية الناجحة فى العالم العربى والأفريقى صارت الآن مأزومة ومتراجعة ومهددة؟ وهل تعرف الإضافة الحقيقية لمشروع مكتبة الأسرة التى ظلوا يهللون له عشرات السنين؟ وماذا تعرف عن المائه مليار دولار كمنحة أمريكية للمكتبات أو المنحة الأوروبية البالغة 70 مليون جنيه لبوابة مصر الإليكترونية؟ وما هو السر وراء تخلى الدولة عن صناعة الرغيف والأسمدة والأسمنت والحديد والكهرباء والطاقة وتمسكها بصناعة الكتاب ودور نشره.. تساؤلات طرحها اثنان من رجال صناعة النشر، أولهما سليل عائلة عملت واهتمت بالمطبعة والطباعة منذ أوائل القرن الماضى، والثانى أول من أسس مع آخرين شركة للنشر الإليكترونى.. وكلاهما صاحب تجربة كانت رائدة فى الأول وأصبحت مريرة الآن.. بسبب عشوائية السياسات والقوانين والمسئولين الذين سيطروا على الحياة الثقافية طوال السنوات الماضية. لم يخطر ببالى عندما فكرت فى فهم مشاكل وهموم الناشرين عندنا، أن المسأله بهذه الصعوبة، وأن متاهة التفاصيل والتعقيدات والخفايا ستعصف بى هكذا، وتشوش على مناطق الإدراك عندى.. فقد ذهبت إليهم ببعض الاستفسارات التى تبحث عن إجابات، وعدت بعدهم بكم من الحيرة والأسئلة التى عجزت عن حملها وتحملها.. ونبدأ مع المهندس مصطفى الطنانى مدير دار الطنانى للنشر والتوزيع، فله باع واهتمام كبير بصناعة النشر، فجده عواد الطنانى هو الذى أنشأ مطبعة الشمرلى بالإسكندرية بحرى سنة 1926 ومازالت موجودة للآن، ولأن الجد كان شاعرًا وأنشأ المطبعة فكان لابد أن يصدر جرنالا، فأسماه «الجزيرة» وكان وفدى الهوى.. وقد سار والده وأخوا له بعد ذلك على نفس درب الطباعة حتى صارت لهم شركة مطابع الطنانى فى عابدين بالقاهرة، وفى عام 1986 أنشأ المهندس مصطفى دار نشر باسم المحروسة كانت جديدة من نوعها حيث اهتمت بالإضافة إلى النشر بالخدمات الصحفية والمعلوماتية وكانت أول من أصدر فهرست أسبوعى لكل الجرائد المصرية عن طريق الكمبيوتر على سبيل المثال.. يقول مصطفى الطنانى إن أهم مشاكل صناعة النشر عندنا هى المنافسة غير الشريفة وغير المشروعة من الدولة للناشرين.. فالدولة التى تركت كثيرًا من الصناعات الثقيلة والخطيرة والضرورية وتخلت عنها كالحديد والأسمنت والأسمدة والحديد والمبيدات والطاقة وغيرها.. لا نريد أن ترفع يدها عن صناعة النشر، لأنها تعلم أن هذه هى الآله التى تحرك بها الشعب، فمع أول وزارة لمصر بعد ثورة 1952 وهى وزارة صلاح سالم، أخو جمال سالم الذى أعطى السنهورى بالشلوت، ثم تعاقبت عليها رتب من الجيش مثل يوسف السباعى وعكاشه.. وكان أداؤهم فى ذلك الوقت هو اغراق السوق بكتبهم وانتاجهم رغم وجود كثير من دور النشر التى لعبت دوراً رائداً فى التنوير المصرى مثل لجنة التأليف والترجمة والنشر للأستاذ أحمد أمين ودار المعارف العريقة ودار الهلال العملاقة، هذا الاغراق جعل صناعة النشر فى احتياج شديد ودائم للدولة وجعل صناعة النشر لا تستقيم ولا تستطيع أن تقف على قائمتين بقوة وصلابة واعتزاز إلا بالاعتماد على الدولة .. وعلى من يقول إن الثقافة كالماء والهواء على الدولة توفيرها والتدخل فيها أن يراجع نفسه. فهذه دعاوى حق يراد بها باطل وفكر قاصر. فهل كون الكتاب بثلاثة جنيهات.. معناه أنك ستوزع وستقرأ. ليس هناك علاقة بين السعر وحجم التوزيع وفكرة عمل مكتبة فى كل بيت وأن كل بيت عليه أن يقتنى أمهات الكتب فهذه فكرة خطأ وغريبة وعمرها ما كانت موجودة فى أى مكان أو زمان.. فما معنى اصدار موسوعة سليم حسن بهذه الطريقة هى وغيرها، هذا منطق فاسد وكان المطلوب من ورائه تسريب الحظائر والعطايا والعزب من مكتبة الأسرة إلى المركز القومى للترجمة وغيرها.. ولننتبه فمن يدافع عن مثل هذه السياسات كلهم أساتذة كليات الآداب الذين يستطيعون أن يدافعوا عن المنطق ومعكوسه فى نفس الوقت واللحظة، تدربوا على ذلك، فهذا التاريخ الثقافى منذ ثورة 52 لم يكن بريئًا لأنه أنتج مثقفين من نوعية جابر عصفور الذى عندما خيّر بين الحرية والاستبداد اختار أن يذهب بكامل إرادته للاستبداد ويقف وراءه ويصبح وزيرًا للاستبداد، هذا هو نتاج المنظومة الثقافية التى نشأت، فى حين أن عطاء ثورة 1919 كان من نوعية أحمد أمين وطه حسين والعقاد ولويس عوض. كل هذه العقول الليبرالية التى جعلت مصر تصمد وتعدى حتى سنة 1975 فهو الجيل الذى تعلم بحق وسافر وجاهد وكان يبغى الحقيقة، ولكن من صرفت عليه الدولة منذ صغره ولم يبذل مجهودًا أمثال جابر عصفور وغيره يقبلون بأدوارهم هذه وبجوائز هم الشائنة، فلا أظن اطلاقا أن د. لويس عوض كان يقبل مثل جائزة القذافى، ولهذا أدعو وأتمنى أولًا أن يرفع لوبى وعصابة آداب القاهرة والأداب الأخرى وصايتهم على الثقافة المصرية، وعليهم أن يتذكروا أنهم ليسوا سهير القلماوى ولا فيهم الشنيطى ولا منهم السيد النجار.. المسألة ببساطة أن أزمة النشر هى من أزمة الوطن، والحل تفكيك وزارة الثقافة كما تفكك جهاز مباحث أمن الدولة، لأنهما جهازان سلطويان، فإذا كان هناك حسن عبد الرحمن، فعندنا جابر عصفور والاثنان كانا يعبثان بعقل مصر ويجب تفكيكهما إلى أصغر حجم ممكن حتى نتخلص من هذا الفساد وأن نلغى كل المنشورات التى تقوم بها هيئات هذه الوزارة، هؤلاء ليسوا ناشرين، ونبدأ عمل مشروع لدعم النشر بعيدًا عن هذه المرافق وأن تتحول الهيئة العامة للكتاب إلى شىء أقرب إلى الليموند، شركة مساهمة مصرية يملكها العاملون لتحقيق مشاريع ثقافية شفافة وواضحة، وأن تكون وحدة انتاجية تحاسب على قدر انتاجها بشكل سنوى ويديرها من هو كفء وقدير بهذه الصناعة، لا أن تكون مجرد استراحة لكليات الآداب وأساتذتها، والذين هم أساسًا غير أكفاء فى مهنتهم الأساسية ويضيف المهندس مصطفى أن ما ساهم فى جعل صناعة النشر عندنا مأزومة أيضًا هو أننا لا نتبنى صيغ العمل المتطورة، فالنشر لا يقف على ما هو ورقى فقط، ولكن هناك نواتج أخرى كثيرة كالتحويل الإلكترونى والتحويل الدرامى وبيع الترجمات والوكيل الأدبى وما يترتب على ذلك من حقوق للملكية، وقد كان لى شرف أن أقوم بأعمال وكالة حقوق الملكية الفكرية لدور نشر وكتاب عالمين، ولهذا سعيت منذ عام 2004 لتطبيق ذلك خاصة مع الهيئة العامة للكتاب باعتبارها أهم ذراع للنشر بالدولة، وتم توقيع عقد مع د. ناصر الانصارى رئيس الهيئة وقتها كطرف أول ومعى كطرف ثان فى عام 2005 اتفقنا فيه على أن أتصل بدور النشر العالمية ومع المؤلفين وممثليهم لشراء حقوق الترجمة ونشرها، وكان نتاج هذا التعاقد إقامة سلسلة الجوائز التى يزهون بها الآن وأكثر ما يوزع عندهم، حيث جئنا لهم بكل كتابها العالميين ودعونا أحدهم إلى زيارة القاهرة فى أول زيارة له بتنظيم من دار الطنانى للنشر والتوزيع وهو الكاتب التركى الشهير أورهان يا مون، وكان من المفترض وفقًا لشروط التعاقد أن يشار إلينا كوكيل أدبى وأن ترتيبات الحصول على الترجمة تمت عن طريقنا وأن يوضع ذلك نصًا مع الاصدار، ولكن رغبة البعض من الصغار أن ينسبوا كل الفضل لأنفسهم ويجحفوا جهود الآخرين جعلهم يخالفون العقود، ونظرة بسيطة لقائمة انتاج هذه السلسلة قبل أن نتعاقد معهم كانت أعمال فؤاد قنديل وفتحية العسال وأنيس منصور وعفيفى مطر وإبراهيم عبد المجيد، وقد توقفت العلاقات مع وفاة د. ناصر الانصارى، رغم أننى كنت قد اشتريت لهم رصيدًا كبيرًا جدًا لكتاب كبار أمثال خوزيه ساراماجو الذى أمثل حقوقه العربية حول العالم ودوريس ليسنج وغيرهما.. ونظرًا لصداقة قديمة مع د. عماد أبو غازى وزير الثقافة أجلت مقاضاة الهيئة رسميًا وأطلعته على كثير من مخالفات الهيئة ورئيسها مع الناشرين الأجانب ومستحقاتهم المالية وما يترتب على ذلك من إضرار بسمعتنا وسمعة مصر.. ونتوقف هنا مع المهندس مصطفى لنستمع إلى المهندس إسلام عبد المعطى وهو أيضًا خريج كلية الهندسة، وأحد الذين أسسوا مع مجموعة من الأصدقاء أول شركة فى مصر للنشر الإليكترونى وهى شركة كتب عربية فى عام 2005 والتى حظيت فى مستوياتها الأولى بترحيب وثقة جموع الكتاب والمؤلفين، إلى أن تدخلت الدولة فأفسدت كل شىء.. فلنستمع إلى المهندس إسلام عبد المعطى الذى يقول: الحقيقة أن الدولة لم تكمن طوال الثلاثين سنة الماضية تدعم النشر بأى صورة من الصور وما كان ساريًا لم يكن إلا تقديم رشاوى للناشرين، زاد بشكل كبير مع بدايات مشروع مكتبة الأسرة حيث حصلت عمليات غسيل أموال بشكل رهيب من خلاله ، وكثير من دور النشر نشأت على هذا المشروع ومن أجله بل ونشأت خصيصًا له ، وهم كثر، والعودة لقوائم النشر المشترك بين مكتبة الأسرة والناشرين نكشف المحسوبيات والرشاوى فى هذا الأمر، فمثلًا عندما أختار دار نشر لطبع كتاب معين وأطلب منها طباعة 250 ألف نسخة مرة واحدة ودفعة واحدة.. هناك أيضًا فساد هائل يرتبط بمكتبات المدارس وطريقة تزويدها بالكتب عن طريق ما يسمى افتراضيًا لجنة القراءة فالواقع يؤكد أن هذه العملية يشوبها الكثير من الفساد والخلل نتيجة المرتبات الضعيفة لموظفى وزارة التربية والتعليم المنوط بهم اختيار هذه الكتب مقابل دور نشر قادرة على الاغواء والاغراء من أجل الفوز بهذه الكعكة المربحة.. المسألة ببساطة - يواصل المهندس إسلام أن الدولة غير واضحة مع نفسها فيما تريد وترغب، فهى لا تقول ماذا تريد من النشر، هل هى تراه جزءاً من اقتصادها القومى عليه أن تنميه وتساعده على تخطى مشاكله وحلها خاصة أن هذه الصناعة لها مشاكلها الخاصة الكثير والتى فيها أن نسبة القراءة فى المجتمع عامة منخفضة شكل مزرى ولدينا أعداد ضخمة من تلاميذ المدارس والجامعات لا يقرأون ولا يدخلون المكتبة ولم يشجعوا على الاطلاع والبحث وهناك شىء غريب فبرغم أن الكتب تباع رخيصة، والناس قد تقتنيها، إلا إن عدد القراء لم يزد لا من مشروع القراءة للجميع ولا من غيره من المهرجانات، فلم نجد الكتاب فى يد الأفراد فى محطات المترو ولا فى القطارات وولا فى أوقات الفراغ ولا على الشواطىء أو فى الأتوبيسات هل لم يتغير سلوك المواطن المصرى، وبالمناسبة العنصر الحاكم فى مسأله القراءة هل ليس هو سعر الكتاب، ولكن الحاكم فى القراءة هو كيف نحو لها من اعتياد إلى عادة ثم إلى متعه، ويجب هنا أن نسأل أنفسنا سؤالًا مهمًا هو نحن نؤمن بأهمية فعل القراءة وهل نؤمن بأهمية المعرفة، خاصة وأن الواقع والحقيقة يؤكدان أن الدولة منذ ثلاثين عامًا ماضية أظهرت وتظهر عداوة باطنة وواضحة للمعرفة، الدولة بكل مؤسساتها عدوة لدودة للمعرفة والتعلم. ونستكمل العدد القادم إن شاء الله