بعيدا عن المحاولات الحالية للأحزاب القديمة والجديدة لاقتسام «الغنيمة» من خلال مناورات انتخابية معروفة ومكشوفة.. يجب الانتباه للوجه الآخر من العملة.. وهى «حالة» الاقتصاد فى البلد.. حاليا ومستقبلا.. لأن أمور الحياة اليومية للمواطنين عبارة عن «قدمين» الأولى: السياسة.. والثانية: الاقتصاد ولا بديل لأى منهما عن الآخر. ولست أدرى هل يعلم هؤلاء السياسيون بحقيقة الأوضاع الاقتصادية من عدمها مع أن الأوضاع تكاد تؤدى إلى ما لا يحمد عقباه.. خسائر متتالية بالبورصة، عجز متزايد بالموازنة العامة، انخفاض حاد فى احتياطى البلاد من النقد الأجنبى، معدلات مرتفعة من البطالة.. والأهم- لأول مرة- معدلات سالبة للنمو فى الناتج المحلى.. ودين عام يصل إلى 97% من الدخل القومى والبالغ 1400 مليار جنيه. فإذا كنا نستهدف سرعة الوصول إلى الاستقرار السياسى.. فلابد أيضا أن نعمل على إعادة عجلة الإنتاج والإسراع بمعدلات النمو الاقتصادى. ولشرح كيفية الخروج من تلك الأزمة الاقتصادية الراهنة.. استعنت بصديق.. هو الخبير الاقتصادى المعروف د. أحمد جلال رئيس منتدى البحوث الاقتصادية وكعادة «الأطباء» المتخصصين.. فضل د.جلال قبل أن يقدم «روشتة» الإصلاح أن يعرض تشخيصا للحالة.. وذلك من خلال وضع السؤال التالى: ما هو الخطأ الذى حدث على مدار العقود القليلة الماضية؟.. ثم ما يجب القيام به على المدى القصير.. ومقترحات التدابير الواجبة على المدى المتوسط والطويل.. من خلال الإجابة عن أى نموذج من نماذج التنمية ينبغى على مصر اتباعه فى السنوات القادمة. ويبدأ بالتأكيد على أن الذين تولوا السلطة فى مصر حتى يوم 11 فبراير الماضى لم يكونوا ممثلين لغالبية الشعب المصرى، ولم يكونوا خاضعين للمساءلة والمحاسبة بشكل فعلى، ولذلك سعوا وراء نموذج تنمية يخدم مصالحهم ومصالح الدائرة الضيقة المحيطة بهم، وقد ركز هذا النموذج فى المقام الأول على الاستثمار (المحلى والأجنبى)، والنمو الاقتصادى بالاعتماد على نظام السوق والقطاع الخاص، مع أقل قدر من تدخل الدولة (أى وفقا لما يعرف بتوافق واشنطن) ولإرضاء مساندى هذا النظام، كانت تعقد صفقات تتعلق على سبيل المثال بتوزيع الأراضى ومنح العقود الكبيرة (مثل عقود الغاز الطبيعى، ومشاريع الإنشاء)، أو حتى من خلال صياغة بعض السياسات (مثل سياسات المنافسة ودعم الصادرات) وكان يُعتقد بناء على تجربة شرق آسيا أن النمو الاقتصادى السريع يتحقق من خلال عدد من كبار رجال الأعمال، وبالتالى تم خلق طبقة من رجال الأعمال تتمتع بغنى فاحش ونفوذ مذهل، وقد بلغ هذا النموذج ذروته فى مصر عندما تحول بعض كبار رجال الأعمال إلى مسئولين سياسيين فجمعوا بين الثروة والسلطة. وكان الزعم السائد أن عوائد النمو الاقتصادى السريع ستتساقط وتصل للطبقات الأدنى فى نهاية المطاف من خلال عدد من القنوات وأهمها إتاحة فرص عمل، ونظرا لبطء هذا التساقط، استشعر النظام ضرورة أن يبدو كأنه يفعل شيئا ما للحد من الفقر المدقع وبخلاف أنها فكرة أتت تالية لهدف النمو، كانت التدابير المتخذة فى هذا الصدد جزئية إلى الحد الذى لا يتيح إحداث تغير ملموس فى حياة الملايين من المصريين الفقراء، ومثال واضح على ذلك ما يسمى بمشروع أفقر 1000 قرية، والذى استهدف تخفيض الفقر فى تلك القرى خلال خمس سنوات، متجاهلين المدى الزمنى الذى قد يستغرقه هذا التحول وتكلفته والأخذ فى الاعتبار بأولويات الفقراء، ويظهر المثال الآخر فى استمرار دعم المواد الغذائية والطاقة، على الرغم من أن العديد من الدراسات أوضحت أن هذا الدعم لا يستهدف الفقراء وأنه يتضمن أشكالا خطيرة من التسرب ولا يصل كله إلى المستفيدين الشرعيين. *** وقد قام النظام السابق بالإعلان عن النموذج السابق فى الداخل والخارج باعتباره نجاحا باهرا، وباركته المؤسسات المالية الدولية، وكان النجاح يقاس بشكل أساسى بحجم تدفقات رأس المال، وبتراكم الاحتياطيات من العملة الصعبة لدى البنك المركزى، وكذلك استقرار سعر الصرف، والأهم من ذلك كله معدلات النمو الاقتصادى، وكانت الأرقام فى حقيقة الأمر، تدعم هذه الادعاءات، فقد وصلت تدفقات رأس المال الأجنبى المباشر إلى 13.2 مليار دولار أمريكى فى 2007/2008 مقارنة ب252 مليون دولار فى 2003/2004، كما تراكم لدى البنك المركزى 35 مليار دولار من الاحتياطيات الرسمية خلال 2010، وكذلك بلغ معدل النمو الاقتصادى 7% خلال الفترة من 2005/2006 إلى 2007/2008 مقارنة ب 3.6% فى المتوسط أثناء الفترة من 2000/2001 إلى 2004/2005، ولكن الأحداث الأخيرة كشفت عن حجم كبير من الفساد وتراكم الثروة لدى فئة محدودة، وهو ما لم يتم الإعلان عنه فى حينه. *** ولكن الخلل الأهم فى النموذج التنموى السابق هو أنه لم يشرك النسبة الأكبر من المصريين فى عوائد النمو، بحيث أصبح السؤال المتكرر دائما هو: أين ذهبت عوائد النمو المرتفع؟ وفى الحقيقة فليس هناك بيانات كافية لقياس ما حدث لتوزيع الدخل والثروة فى مصر، إما لأن هذه البيانات لم يتم جمعها (الخاصة بالثروة) بتعمد وإما لأنها غير متاحة للاستخدام (مسوح الأسرة) إلا أنه يمكن الاستدلال على أن عوائد النمو لم تصل لعدد كبير من المصريين ببعض المؤشرات منها: أن النمو لم يتح فرص عمل كافية لاستيعاب المستجدين فى سوق العمل مع وجود بطالة صريحة مستمرة تقدر ب 9% من قوة العمل.. بل انخفض نصيب الأجور إلى إجمالى الدخل القومى من 28% إلى 25%، كما كانت النقابات والاتحادات العمالية أبعد ما تكون من الاستقلالية والفاعلية، كما لم يشهد القطاع غير الرسمى الذى يمثل 30% من إجمالى الناتج المحلى ويوظف نحو 40% من القوة العاملة، أى نوع من التحسن فى بيئة العمل بحكم أنه يعمل خارج إطار القانون، ونتيجة لذلك لم يكن من الممكن لأصحاب المشاريع الصغيرة التوسع فى أعمالهم وأن يصبحوا أكثر إنتاجية بسبب ضعف فرصتهم أو انعدامها فى الحصول على قروض مصرفية، أو على عقود مع الشركات الكبيرة أو الحكومة، أو حتى على حماية القانون، وأخيرا لم يكن هناك جهد منظم لإتاحة فرص اقتصادية متساوية للمصريين، إذ لم تقدم الحكومات المتعاقبة سوى محاولات هزيلة -إن وجدت- لتحسين نوعية التعليم والخدمات الصحية، وعليه فإنه على الرغم من الاستمرار فى انتهاج سياسة مجانية التعليم والخدمات الصحية فإن نوعية هذه الخدمات لم تمكن الفقراء من اكتساب المهارات اللازمة لتمكينهم من الالتحاق بسوق العمل، وعلاوة على ذلك، هناك أدلة تشير إلى أن أغلب الذين استفادوا من مجانية التعليم العالى ليسوا من الفقراء، وإنما هم الذين ولدوا لأبوين متعلمين، ويعيشون فى المناطق الحضرية ولديهم قدر أكبر من الثروة. وباختصار كان نموذج التنمية المتبع معيبا، حيث كان منحازا للطبقة الحاكمة وللأغنياء، وقد منح هذا النموذج امتيازات لأصحاب رؤوس الأموال على حساب العمال، والفلاحين، والمستهلكين، واعتمد بشكل مبالغ فيه على آليات السوق دون اتخاذ الإجراءات الفعالة التى من شأنها الحد من سوء استغلال قوى السوق، أو منع الفساد أو الحد من الفقر المدقع. *** ويؤكد د. جلال أننا نحتاج إلى «نموذج» يسمح بالجمع بين النمو الاقتصادى السريع والتوزيع العادل لعوائد التنمية على أساس مساهمة المواطنين واحتياجاتهم وليس على أساس علاقاتهم بنظام الحكم. نعم نحتاج لأن نتخذ سياسات اقتصادية تتميز بالكفاءة والفاعلية وتحقق المساواة من خلال تبنيها مصالح الأغلبية من المواطنين، وأن تتسم بالمصداقية والثقة. والآن.. أى نموذج من نماذج التنمية ينبغى على مصر اتباعه فى السنوات المقبلة؟.. وإلى العدد القادم.. إن شاء الله.