فى هذه الأيام العجيبة التى شُوِّهَت فيها اللغه واختلطت معانى الكلمات وتداخلت، ووُصفت الأشياء بغير صفاتها وسُميت بغير أسمائها..تطالعنا استخداماتٌ جديدة وغريبة ومشبوهة لبعض الكلمات؛ على سبيل المثال كلمة (الأنصار)..فقبل الثورة حين شاعت (البلطجة) واختلطت الأمور وسادت ظواهرُ و تقاليدُ أشبهُ بالتقاليد القبليّة، وتحول النوَّاب فى مجلس الشعب السابق إلى ما يشبه زعماء العصابات.. كنا نقرأ – مثلاً - أن النائب الفلانى توجَّه إلى أحد مراكز الشرطة وسط جمع من (أنصاره)، وأنهم اعتدوا على رجال الأمن، ثم أفرجوا عن قريب لهم كان محتجزًا على ذمة التحقيق فى قضية ما. أو نقرأ أنه جرت محاكمة النائب فلان أمام المحكمة الفلانية، وأنه قد تجمع أمام المحكمة عدد من (أنصار) النائب المذكور لتأييده. وذات مرة قرأت حديثًا لرئيس مجلس الشعب السابق، ذلك الرجل صاحب عبارة (سيد قراره) يؤكَّد فيها أنه لا ينفق من جيبه على الدعاية الانتخابية لنفسه فى دائرته، وقال: إن (أنصاره) يقومون بالواجب. يعنى أنهم يجمعون من أنفسهم ما ينفق على حملته الانتخابية.. وفى هذه الأيام أصبحنا نقرأ عن (أنصار) الرئيس السابق مبارك، هؤلاء الذين ظهروا فجأة وأصبحوا يتجمعون أمام المكان الذى تجرى فيه محاكمته، وأصبحنا نقرأ بين وقت وآخر أن (أنصار) مبارك اشتبكوا – مثلاً – مع أهالى الشهداء، أو أنهم هددوا هذا الشخص أو ذاك ممن كانوا يعارضون سياسة ذلك الرجل ونظامه. مثل هذا الاستخدام بإطلاق كلمة (الأنصار) على هؤلاء يحمل مغالطة خطيرة..فكلمة (الأنصار) من الكلمات العزيزة فى تاريخنا وقد وردت فى القرآن الكريم - هكذا بصيغة الجمع – إحدى عشر مرة، وقد وصف المسيح عليه السلام مؤيِّدى دعوته بأنهم (أنصاره)، وعندما سألهم « من أنصارى إلى الله؟ « قال له الحواريون « نحن أنصار الله».. وشاعت كلمة (الأنصار) فى التاريخ الإسلامى وتاريخ الأدب العربى بعد الإسلام مقرونة بقسيمتها العزيزة الأخرى (المهاجرون) وجاءت الكلمتان معًا فى القرآن الكريم أكثر من مرة. وإذا كان (المهاجرون) هم الذين تركوا ديارهم فى مكة وانطلق فريق منهم أولاً إلى الحبشة ثم بعد ذلك انطلقوا إلى يثرب ،طلبًا للحماية ،وحفاظًا على دينهم ،وعملاً على نشره ،وإعلاء كلمته، وزيادة أتباعه ؛استعدادًا للعودة بعد ذلك لمجاهدة الوثنية والشرك..فإن(الأنصار) هم أهل يثرب الذين بايع ممثلوهم نبىّ الإسلام محمدًا عليه الصلاة والسلام، بايعوه على أن (ينصروه) وأن يمنعوه ] أى يحمونه [ مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأموالَهم، وهم الذين كانوا شركاء أول معركة فى الإسلام.. أعنى غزوة بدر، وهم الذين برزوا فى أول المعركة لمنازلة بعض المكيين المتحدِّين للمبارزة، وذلك قبل أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة من المهاجرين بالخروج لمبارزة الثلاثة المتحدِّين من كفار مكة.. (الأنصار) الحقيقيون هم (أنصار) الله و(أنصار) رسوله و(أنصار) الحق. والفعل (نَصَرَ) فِعل نبيل، ودلالة نُبل معناه أنه فعل إيجابى ومرن، يؤكّد هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا )، وقد فهم الذين سمعوا كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم معنى أن( تنصرَ) أخاك حين يكون مظلومًا، وهو المعنى الأقدم المتبادر إلى الذهن، ويعنى حمايته والدفاع عنه والوقوف إلى جانبه،ولكنهم لم يفهموا معنى أن ( تنصر) أخاك حين يكون ظالمًا .وهنا جاءهم المعنى النبيل الذى زوَّدنا به رسولنا الكريم وديننا الحنيف، قال: ( تنصر) أخاك الظالمَ بأن تمنعه عن الظلم، هذا هو المعنى الإسلامى ( لنصر) الظالم..منْعُه من الظلم، وهو ما يعنى (الانتصارَ) للحق بأن تقف مع الحق لتمنع الظلم، فتكون قد (نصرت) المظلوم و(نصرت) الظالم. ويبدو أن هذا المعنى (للنصر)يتجاوب بقوة مع الحديث الآخر (المؤمن القوىّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف) لأن المؤمن القوىَّ هو القادر على تحقيق (النصر) بكلا معنييْه: تأييد المظلوم ومنع الظالم من الاسترسال فى ظلمه. الفعل (نصر) – كما نرى – فعلٌ نبيل، و(الأنصار) هم الذين يُحقُّون الحقّ ويُزهقون الباطل ويردعون الظالم عن ظلمه حتى وإن كان من ذوى قرابتهم. لقد كان أول ما فعله (الأنصار) الأوائل هو أن أشركوا إخوانهم المهاجرين فى جميع ما كانوا يملكون، ثم كانوا – بعد ذلك – يسبقونهم إلى ساحة الجهاد والفوز بالشهادة، حتى لقد قال لهم الرسول :(إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع) أى تتزاحمون على الجهاد وتتسابقون إلى الخطر، وتعزِفون عن الجرى وراء الكسب والغنائم. فهل يفعل (أنصار) سرور ومبارك وفلان وفلان مثلَ ذلك..أم أنهم عُوِّدوا على الجرى وراء هِبات أسيادهم: الشُّقق والقصور وقطع الأرض والوظائف والفرص من مختلف الأنواع، وهم اليوم يحاولون ردّ الجميل أو- لو استطاعوا- إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، فإن لم يستطيعوا ذلك بأنفسهم استعانوا بصنائعهم من القدماء والجدد..ممن يشبهون الخفافيش التى لا تظهر ولا تعمل إلا فى الظلام..مما يستحيل معه أن يُطلق عليهم وصف (الأنصار). إن كلمة (الأنصار) – أيها السادة – بريئةٌ من أمثال هؤلاء..ونوَّاب المخدّرات والرشاوى وتأشيرات الحج والعمرة والتهرب من الجمارك والهروب من التجنيد ومرتكبى كلّ الموبقات فى النظام السابق، ومثلهم هؤلاء الذين يواصلون دورهم ويجنّدون (البلطجية) والمجرمين ويكوّنون منهم جماعاتٍ عدوانيّةً تحت مختلف الشعارات والأسماء: أبناء مبارك، آسفين يا ريّس، أو غير ذلك..هؤلاء جميعًا ليسوا جديرين على الإطلاق بهذا الوصف (الأنصار) فهذا وصف نبيلٌ وسامٍ..يستحيل أن يستحقوا مجرد الاقتراب منه..فضلاً عن التحلى به، أما الوصف الذى يستحقونه - بحكم اللغة وواقع سلوكهم – فهو أنهم (أتباعٌ) و(ذيولٌ) ، وشتان ما بين الوصفين: (الأنصار) من جهة و(الأتباع )و(الذيول) من جهة ثانية .