لابد من الاعتراف بأنه لو لم تكن مظاهرات الغضب التى أحاطت بمقر السفارة الإسرائيلية بالقاهرة.. تنادى بالقصاص لمقتل الضباط والجنود المصريين على الحدود، وتطالب بطرد السفير الإسرائيلى وإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل.. لابد من الاعتراف بأنه لو لم تكن تلك المظاهرات ما كانت إسرائيل قد اعتذرت أو اهتز لها جفن!.. لو أن حادث مقتل الضباط والجنود المصريين على الحدود والذى تزعم إسرائيل أنه وقع على سبيل الخطأ.. لو أنه وقع أيام الرئيس السابق لكانت المسألة كلها قد اقتصرت على عدد من المظاهرات المحدودة تخرج من بعض المساجد وتستمر ساعة أو ساعتين ثم تنفض.. ويعقبها بعض بيانات الشجب والاستنكار والتصريحات “الأكلاشيهية” المعتادة - إن صح التعبير - ثم قبول رسمى لاعتذار لم يقدم بصفة رسمية!.. وبعدها يصمت الجميع!.. هذه المرة إسرائيل لم تكتف بتقديم اعتذار رسمى لمصر لكنها وافقت على فتح تحقيق مشترك مع الجانب المصرى.. بل إنها قامت بتسليم مصر نتائج تحقيقاتها الأولية لحين بدء هذا التحقيق المشترك.. والأهم أنها أصبحت مستعدة أو على الأقل مهيأة لفكرة مراجعة اتفاقية السلام وقبول مبدأ إعادة انتشار القوات المصرية فى سيناء.. هكذا تفعل الضغوط الشعبية. لكن علينا أن نتذكر دائماً أن كل ما يزيد عن حده.. ينقلب ضده!.. ولابد من الاعتراف أيضاً بأن الضغوط الشعبية تمثل طرفاً من طرفى معادلة.. يقف على جانبها الآخر إدارة الدولة أو الحاكم.. وهذه الإدارة تستجيب للضغوط أو لا تستجيب فى ضوء ما تراه مصلحة عُليا للدولة.. ومن الطبيعى أن يكون هناك فارق بين طرفى المعادلة.. بين ضغوط شعبية تفجرها وتحركها انفعالات وبين الإدارة التى تحكم قراراتها الحسابات.. وإذا اتفقنا أن الاثنين.. الضغوط الشعبية وإدارة الدولة.. يمثلان طرفى معادلة.. فإن هذه المعادلة تكون صحيحة إذا استفادت إدارة الدولة من الضغوط الشعبية واستثمرتها وقامت بتويظفها التوظيف الصحيح.. وفى نفس الوقت إذا لم تتجاوز الضغوط الشعبية دورها وحدودها وتتصور أنها صاحبة القرار!.. المعادلة فى إسرائيل على سبيل المثال.. صحيحة.. فإدارة الدولة الممثلة فى الحكومة أو رئيس الوزراء كانت دائما تستثمر الضغوط الشعبية لتحقيق ما تتصور أنه مصلحة عُليا.. وأظننا نذكر أن كل رؤساء الوزارة الإسرائيلية كانوا يتذرعون دائماً إذا ما وصلت المفاوضات بينهم وبين الفلسطينيين والعرب عموما إلى نقطة حرجة.. أو إذا ما ضغطت عليهم الإدارة الأمريكية.. كانوا يتزرعون بالكنيست الذى يمثل إرادة الشعب الإسرائيلى.. كانوا يقولون إذا ما طلب منهم تقديم تنازلات.. نحن موافقون لكننا لا نضمن موافقة الكنيست.. لا نضمن موافقة الشعب الإسرائيلى ولا نستطيع مخالفة إرادته!.. أظننا نذكر أيضاً أن حكومة بيجن التى وقّعت اتفاقية السلام استخدمت ورقة الضغوط الشعبية جيداً للحصول على أفضل شروط للاتفاقية من وجهة نظرها.. لكنها أبدا لم تسمح لهذه الضغوط الشعبية بأن تتحول إلى قرارات.. فعندما حان وقت تنفيذ المعاهدة والانسحاب من سيناء.. اصطدم قرار الحكومة بالانسحاب بضغوط المستوطنين الإسرائيليين الذين رفضوا الانسحاب.. لكن الحكومة الإسرائيلية لم تسمح لهؤلاء المستوطنين بتعطيل تنفيذ الاتفاقية أو تجميدها.. فقامت باستخدام القوة لإجلائهم وإخلاء سيناء!.. المسألة فى مصر والدول العربية على وجه العموم تختلف تماما.. فالإرادة الشعبية ومن ثم الضغوط الشعبية لم يكن لها وزن أو اعتبار عند الحاكم.. ولم يكن فى إمكان أى حاكم مصرى أو عربى أن يتزرع بحجة الإرادة الشعبية.. لم يكن فى استطاعته أن يناور بورقة الضغوط الشعبية فقد كان الجميع يعرفون أن الإرادة الشعبية لا وزن لها عنده ولا اعتبار!.. وكانت الإدارة الأمريكية التى تتعامل معه وكذلك الإدارات الإسرائيلية.. تدرك أنه وحده صاحب القرار.. وكان سهلا عليها أن تضغط عليه وهى موقنة أنه سيقدم تنازلات كثيرة.. لأن الضغط على فرد واحد مهما كان قويا أسهل وأهون من الضغط على شعب مهما كان ضعيفا!.. ولو أن المعادلة فى مصر والعالم العربى عموما كانت صحيحة.. لو أن إدارة الدولة كانت تستثمر الضغوط الشعبية لصالحها ما وقع الكثير من المآسى.. ما كان التواجد الأمريكى المكثف فى المنطقة وما تبعه من مأساة تدمير العراق.. وما كان التعنت الإسرائيلى وضياع حقوق الشعب الفلسطينى.. وما كانت اتفاقية السلام بشروطها المجحفة، إنما اتفاقية عادلة تضع كل طرف فى حجمه الطبيعى!.. وما كانت الدول العربية كلها فى هذا الوضع المهين!.. لكن قواعد اللعبة تغيرت.. أو هكذا فوجئت إسرائيل!.. *** كانت مظاهرات الغضب التى أحاطت بمنتهى الإصرار بمقر السفارة الإسرائيلية فى منطقة الجيزة.. مؤشراً واضحاً فهمت منه إسرائيل وأدركت من خلاله الولاياتالمتحدة أن القواعد التى كانت تتعامل بها مع مصر قد تغيرت تماما.. مظاهرات الغضب طالبت بالقصاص.. طالبت بالرد على إسرائيل بنفس الطريقة.. وطالبت بقطع العلاقات الدبلوماسية وسحب السفير المصرى من تل أبيب وطرد السفير الإسرائيلى من القاهرة.. وأكثر من ذلك.. فقد طالبت مظاهرات الغضب بإلغاء اتفاقية السلام مع إسرائيل.. وفى أجواء الهتافات العدائية للسفير الإسرائيلى وكل الإسرائيليين وتحت أضواء اللهب المنبعث من العَلَم الإسرائيلى المحترق.. دقت طبول الحرب التى رقص عليها المتظاهرون الغاضبون!.. ولأول مرة تتحرك إسرائيل بسرعة.. أعلن الرئيس الإسرائيلى عن أسفه لوقوع الحادث.. فلما تبين الرفض الشعبى المصرى لهذه الخطوة أعلنت إسرائيل رسميا اعتذارها عن الحادث.. الاعتذار الرسمى لم يكن إجراء بسيطا بالنسبة لإسرائيل.. فقد كان منطقيا أن تؤجل هذا الاعتذار الرسمى لحين الانتهاء من التحقيقات المشتركة التى أعلن عنها.. لكنها استبقت التحقيقات واعتذرت رسميا.. أُذكِّر القارئ بأن إسرائيل لم تقدم حتى الآن اعتذارا رسميا للحكومة التركية لقتلها عدد من الأتراك على متن السفينة التركية التى حاولت فك حصار غزة!.. فى نفس الوقت أعلنت إسرائيل أنها ترحب بالتحقيق المشترك للحادث كما أعلنت أنها أطلعت مصر على نتائج تحقيقاتها الأولية.. الأهم من ذلك كله أنه لم يصدر تصريح إسرائيلى واحد يهاجم فكرة مراجعة بنود اتفاقية السلام وتعديلها على ضوء الظروف الراهنة.. وهو ما يعنى أن إسرائيل أصبحت مستعدة للاستجابة لهذا المطلب أو على الأقل مهيأة لمناقشته والاستجابة له. إلى هذا الحد كانت الضغوط الشعبية مفيدة لإدارة الدولة.. إلى هذا الحد كانت المعادلة صحيحة.. إلى هذا الحد أصبح المجلس الأعلى للقوات المسلحة باعتباره السلطة الحاكمة قادرا على المناورة واللعب بورقة الضغط الشعبى لتحقيق مصلحة مصر العليا، وفى مقدمتها تعديل بنود اتفاقية السلام. تعديل الاتفاقية سيسمح بإعادة انتشار القوات المصرية فى سيناء بشكل يسمح لها بالحفاظ على سيادة الدولة وفى نفس الوقت حماية حدودها بشكل أكثر فعالية.. ولعل القارئ يذكر أنه حدثت بالفعل تعديلات على معاهدة السلام عام 2005.. فتم وضع قوات محدودة من حرس الحدود على الحدود المصرية مع قطاع غزة.. تعديل الاتفاقية لصالح مصر إذن مسألة ممكنة خاصة فى ظل وجود الضغوط الشعبية.. لكن المشكلة - كما ذكرت فى البداية- أن الضغوط الشعبية بدأت تسمح لنفسها بأن تتجاوز حدودها ودورها وتتصور أنها صاحبة القرار وليست السلطة الحاكمة.. المشكلة أن الضغوط الشعبية بدأت تزيد عن حدها.. فلم تعد المعادلة صحيحة!.. *** قامت مجموعة من القوى السياسية المختلفة بتوجيه دعوة لمليونية جديدة تتجمع فى ميدان التحرير وتنطلق بعد ذلك إلى مقر السفارة الإسرائيلية بالجيزة ثم بيت السفير الإسرائيلى بمنطقة المعادى.. الدعوة للمليونية الجديدة تعكس إصرار بعض القوى السياسية على طرد السفير الإسرائيلى من القاهرة وسحب السفير المصرى من إسرائيل وقطع العلاقات الدبلوماسية معها.. قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ليس له إلا معنى واحد.. إلغاء معاهدة السلام التى ينص بندها الأول على إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل.. خطوة قطع العلاقات معناها بشكل آخر العودة إلى حالة الحرب مع إسرائيل.. هل تدخل مصر فى حرب مع إسرائيل فى هذا التوقيت؟!.. هل تغامر السلطة الحاكمة الآن بدخول حرب لم تختر مكانها وزمانها؟!.. ثم ما هو الهدف من هذه الحرب؟! الإجابة معروفة ويجب أن نضيف لها أن إسرائيل تتربص بسيناء وأنها تتمنى إعادة احتلالها.. يجب أيضاً أن نضع فى اعتبارنا أيضاً أن قواتنا المسلحة تقوم بجهود هائلة لتأمين مصر.. ليس حدودها فقط طبقاً لواجبها الأساسى، إنما هى تؤمّن الآن مدن مصر ومحافظاتها وطرقها وشوارعها وميادينها.. وكل ذلك يمثل لها عبئا لا يمكن تجاهله.. ثم يجب ألا ننظر إلى ما حدث على الحدود مع إسرائيل بمعزل عما حدث فى العريش عندما هاجمها مجهولون أثبتت التحقيقات الأولية أن من بينهم فلسطينيين.. والمعنى أننا نواجه بالتأكيد مؤامرة تستهدف سيناء.. ويجب بعد ذلك ألا ننسى أن هناك خططاً ومخططات إسرائيلية لتوطين الفلسطينيين فى جزء من أراضى سيناء.. وبعد ذلك كله - وربما قبله - هل يستطيع أحد تفسير إطلاق صواريخ «سكود» من غزة على الأراضى المصرية؟.. الحادث تكرر ثلاث مرات فى الفترة الأخيرة فهل يمكن أن يكون ذلك على سبيل الخطأ؟!.. وهل نصدق أن الخطأ يتكرر ثلاث مرات؟!.. *** الضغوط الشعبية أتت ثمارها وجعلت إسرائيل تفيق على واقع جديد عليها أن تتعامل معه.. الضغوط الشعبية أضافت قوة للقوات المسلحة التى تمثل السلطة الحاكمة.. لكن هل يصل الأمر إلى حد الضغط على القوات المسلحة نفسها والإضرار بها..؟! هذا هو الخطأ والخطر!..