جمهوريات الموز تعبير كان يطلق فى البداية على دول أمريكا الوسطى والجنوبية، والتى تشتهر بإنتاج الفاكهة بصفة عامة والموز بصفة خاصة، والتى تهيمن على تجارته الشركات الأمريكية العملاقة، ومن ورائها الحكومة الأمريكية التى كانت تستغل حالة الفوضى السائدة فى بعض هذه الدول وغياب القانون لتتحكم فيها كيفما شاءت باعتبارها الفناء الخلفى للولايات المتحدةالأمريكية؛ وقد وصل بها الأمر إلى تغيير رؤساء جمهوريات هذه الدول، بل والقبض على أحدهم بتهمة تجارة المخدرات وسجنه فى السجون الأمريكية. شاع تعبير جمهوريات الموز ليصبح رمزا للسخرية من الدول الصغيرة التى تلعب واشنطن بها وتتلاعب وتفعل بها ما تشاء.. وعندما استضافتنى قناة العربية يوم الجمعة الماضى للحديث عن أزمة التمويل الأمريكى لمنظمات المجتمع المدنى من وراء ظهر الحكومة المصرية، والأزمة التى سببها غلاف أكتوبر مع الخارجية الأمريكية قلت من بين ما قلت: إن على الإدارة الأمريكية أن تعى جيدًا حجم مصر ودورها فى محيطها العربى والإقليمى والدولى.. وأن تدرك أن مصر دولة قوية ذات سيادة وليست جمهورية من جمهوريات الموز.. ففى تقديرى أن الأزمة لا تكمن فقط فى قيام الإدارة الأمريكية بتمويل بعض منظمات المجتمع المدنى ووسائل الإعلام، نعم وسائل الإعلام الجديدة، وقد يكون من بينها فضائيات وصحف، من وراء ظهر الحكومة، لكن الأزمة تكمن فى العقلية التى تهيمن على أداء الإدارة الأمريكية، والتى أحدثت شرخًا واختلالاً فى هيكل العلاقات مع مصر؛ بإصرارها على التعامل معها بتعال بالتدخل المستمر فى شئونها الداخلية واللعب فى أمنها القومى، وكأنها دولة مستباحة وليست دولة ذات سيادة. فأمريكا تصر على أن تمول من تشاء داخل مصر بدون علم الحكومة المصرية وبدون أى شفافية تحت دعوى هلامية، بل وخرافية، اسمها نشر أو دعم الديمقراطية، على الرغم من أن الأمر مختلف تمامًا داخل أمريكا.. حيث يلزم القانون المنظمات الأهلية بنشر ميزانياتها، والكشف عن مصادر تمويلها بشفافية كاملة، وتمويلها غالبًا ما يكون عن طريق الحكومة الأمريكية نفسها، بالإضافة لاشتراكات الأعضاء، وإذا سمح لتلك المنظمات بتلقى منح فمن منظمات، وليس من دول، أو من خلال تبرعات بعض الأفراد، وكل ذلك تحت سمع وبصر الحكومة. وفى تقديرى أنه لو لم تتفجر أزمة التمويل الأمريكى السرى لمنظمات المجتمع المدنى فقد كان من المؤكد، فى ظل الخلل فى هيكل العلاقات المصرية الأمريكية، أن تتفجر أزمات أخرى لأسباب أخرى مختلفة. وليس سرًا أن الأزمة الراهنة هى صناعة أمريكية 100%، وكل دور مصر فيها، بل حتى مجلة أكتوبر التى اتهموها بأنها هى التى فجّرت الأزمة، هو مجرد رد فعل لما قامت به أمريكا من فعل يمس السيادة المصرية. فدعونا نَقُلْ، دون أية مواربة، إن هناك حالة احتقان مكتومة فى الإدارة الأمريكية تجاه التوجهات الجديدة للحكومة المصرية والمجلس العسكرى بعد ثورة 25 يناير.. فانفتاح مصر على محيطها وإقليمها العربى والأفريقى لا يجد قبولا من الولاياتالمتحدةالأمريكية، والتى تريد هى وحدها أن تشكل خريطة المنطقة حسب مصالحها الآنيَّة، وليس حتى طويلة المدى، بصورة تعيد إلى الأذهان حقبة الإمبراطوريات والقوى الاستعمارية البائدة فى فترة من أسود فترات تاريخ المنطقة والعالم. فالمصالحة التاريخية الفلسطينية التى تمت على أرض مصر وبرعاية كاملة لها، والتى كانت نتيجة من نتائج التعامل المصرى بشفافية واحترام مع كل المنظمات الفلسطينية وفى مقدمتها حماس، لا ترضى أمريكا ولا إسرائيل، كما أن الغزل الإيرانى المصرى والذى يظهر حينا ويخبو أحيانا لا يرضى أيضًا أمريكا على الإطلاق.. فمثل هذه التحركات المصرية لا ترضى عنها أمريكا؛ وهى السبب فى حالة الاحتقان داخل الإدارة الأمريكية التى ترى أن مصر تجاوزت الخطوط الحمراء المرسومة لها، وهو شكل من أشكال التعالى لم يعد مقبولا فى ظل المتغيرات التى طرأت على الساحة المصرية بعد ثورة 25 يناير، كما لم يعد مقبولا فى علاقات الدول بعضها ببعض، ونحن فى بدايات القرن الحادى والعشرين. وفى تقديرى أنه للخروج من الأزمة الراهنة يجب على الإدارة الأمريكية أن تعيد تقييم مواقفها تجاه مصر وتنتهج سياسة جديدة نحوها تقوم على مبادئ الاحترام المتبادل وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، والتعامل معها كدولة ذات سيادة لها ثقلها ودورها المحورى. وأعتقد أن أول مبادرة على أمريكا أن تلجأ إليها، لإبداء حسن النوايا، هى أن تعلن التزامها بما تم الاتفاق عليه بين البلدين واحترام القوانين المصرية التى تحظر عمل المنظمات والجمعيات الأهلية الأجنبية والمصرية دون ترخيص، والإفصاح عن أسماء المنظمات التى تلقت تمويلا أمريكيا، مع إبلاغ الحكومة المصرية مسبقًا بأسماء الجمعيات والمنظمات التى ستحصل على تمويل فى المستقبل فى إطار من الشفافية والتفاهم المتبادل بين حكومتى البلدين. أعتقد أن هذا هو السبيل الوحيد لتهدئة الوضع المتأزم الآن بين مصر وأمريكا.. وإعادة العلاقات إلى مسارها الطبيعى لصالح الشعبين المصرى والأمريكى.