بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتى، توالى على قيادة شعب جورجيا ثلاثة رؤساء جاءوا جميعهم بالتأييد الشعبى الجارف، لينتهى بهم الحال إلى تخييب آمال الشعب الجورجى وإثارة غضبه ونقمته عليهم. ففى البداية، لقى زفياد جامسا خورديا- الذى تم انتخابه بأغلبية شعبية عام 1991- مصرعه إبان حرب أهلية جاءت بالرئيس إدوارد شيفرنادزه وزير الخارجية السوفيتى الأسبق إلى سدة الحكم عام 1992.وعلى الرغم من نجاح شيفرنادزه فى بسط الاستقرار فى جورجيا ووضعها على طريق التحول الديمقراطى، فإنه سرعان ما وجهت إليه الاتهامات بتزوير نتائج الانتخابات البرلمانية، الأمر الذى أرغمه على تقديم استقالته إثر اندلاع ما سمىب (الثورة الوردية). وفى انتخابات 2003 كان الفوز من نصيب الرئيس الجورجى الحالى، ميخائيل ساكاشفيلى الذى سرعان ما ألقى بنفسه فى أحضان الأمريكان وانتهج سياسة وصفتها مجلة الإيكونوميست البريطانية بالحمقاء وربما الإجرامية. وفى هذه الأيام تحل الذكرى الثالثة لحرب القوقاز التى شنتها روسيا على قوات ساكا شفيلى وسحقتها ولقنت نظام ساكاشفيلى درسا لن ينساه بعد عدوانه الواسع على تسخينفالى عاصمة أوسيتيا الجنوبية. والآن، تحاول جورجيا، التى كانت تعرف بأنها معجزة اقتصادية بين جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفيتى فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، الانضمام دون جدوى للاتحاد الأوروبى. فهى على حد قول كافة المحللين مستقبلها الأوروبى غير واقعى فى الوقت الحالى. وجاء فى تقرير بعنوان (خيارات جورجيا) أعده توماس دى وال، الخبير المتخصص فى منطقة القوقاز بمؤسسة كارنيجى، أنه خلال عامى 2012- 2013 سوف تدخل جورجيا مرحلة ما بعد الثورة. لذلك، فإن النخبة فى هذا البلد لا تزال عالقة بما يمكن أن نسميه ب (تفكير النظام الثورى). ويلاحظ المؤلف أيضا أنه منذ الثورة الوردية فإن عدداً كبيراً من المتحولين أخذوا أماكنهم فى الحكومة. ويعلق على التغيرات التى شهدتها الدولة فيقول إن هناك 7 وزراء للدفاع و5 للمالية تم استبدالهم فى جورجيا منذ عام 2004. ويضيف دى وال أن جورجيا حصلت على استقلالها وهى فى حالة خراب تام، وقام شيفرنادزه بإنقاذ البلاد فى الوقت الذى اعتبرها فيه الجميع دولة مفلسة. وخلال السنوات الأولى لإدارة ساكا شفيلى تحولت جورجيا إلى قصة نجاح. لكن سرعان ما بدأت المشاكل الاقتصادية الجادة تطفو على السطح. فى حين يقول السفير الأمريكى السابق لدى روسيا جيمس كولينز إنه خلال ال 20 عاما الماضية شهدنا واقعا جديدا لما بعد الاتحاد السوفيتى. فقد برزت أكثر من 10 دول بدلا من دولة واحدة، ولكل دولة دستورها وحكومتها وخطط التنمية الاقتصادية الخاصة بها. وكان المثال الجورجى هو الأكثر اهتماما والهاما بالنسبة للأمريكيين. ويتفق الاثنان على أن النجاح الجورجى سواء فى المجالات السياسية أو الاقتصادية لم يكن نجاحا يتسم بالدوام. ويقتبس دى وال فى تقريره مادة بحثية تشير إلى أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى جورجيا قد انخفضت من 2 بليون دولار فى عام 2007 إلى 553 مليون فى 2010. ووفقا لبحث آخر بين دول الاتحاد السوفيتى السابق فإن جورجيا تأتى فى الترتيب بعد أرمينيا وأوكرانيا فيما يتعلق بالناتج المحلى الإجمالىGDP. وقد كشفت الانتخابات الأخيرة فى جورجيا أن الشعب هناك يهتم بالمشاكل الاقتصادية مثل البطالة وارتفاع الأسعار ومعاشات التقاعدين أكثر من اهتمامه بموضوع السيادة على الأراضى. وحسب دى وال فإن هذه النزعة تختلف تماما عما كان عليه الحال فى أعقاب السنوات الثورية فى جورجيا. ويشير إلى أن الفقر ظل كما هو المشكلة الخطيرة هناك ويقول إن البلاد تنفق على السجون ضعف ما تنفقه على الزراعة، والسجون الممتلئة عن آخرها هى الوجه الآخر لميدالية مكافحة الحكومة للفساد. وعدد المساجين فى جورجيا الآن هو أربعة أضعاف ما كان عليه العدد فيما بعد السنوات الثورية. ويكفى القول بأن جورجيا الآن هى خامس دولة على مستوى العالم من حيث عدد السجناء. ويشير دى وال فى تقريره إلى أن الحكومة الجورجية رغم نجاحها فى تنفيذ الإصلاحات القانونية فإنها لم تتعامل مع الإصلاحات الزراعية، مما جعل البلاد تستورد الطعام من الخارج.والزراعة الآن تمثل 9% فقط من الناتج المحلى الإجمالى مع 55% من القوى العاملة فى هذا المجال. ووفقا لدبلوماسيين ومحللين سياسيين فإن المهمة الرئيسية لجورجيا الآن هى تقدير مواردها بصورة واقعية والعمل على تنفيذ استراتيجيتها التنموية، بحيث لا تعتمد كلية على عطف الغرب ودعمه اقتصاديا وهو ما يحدث فى الوقت الحالى.