مع قدوم شهر رمضان كل عام أشعر بالحنين إلى الأصول التى تربيت فى تربتها فى مدينة دمياط التى كانت لها وحتى اليوم خصوصيتها. فلوقوعها فى آخر فرع للنيل فقد أصبح ضروريا أن تصبح مدينة وصول يقصدها كل من يصل إليها وهو ما يميزها عن باقى مدن الجمهورية التى يمكن وصفها بأنها مدن مرور يقصد المار بها الذهاب إلى وجهة أخرى. وقد لا تكون هناك مدينة تحمل هذه الصفة سوى مدينة رشيد. ومثل هذه السمة جعلت من دمياط مجتمعا يعرف بعضه ويتعايش كأسرة كبيرة لها جيناتها التى تميزها. وقد كان من حظى أن أمضى طفولتى فى مدينة دمياط بسبب أقدار لا دخل لى فيها. وأعترف أننى لم أعرف قيمة دمياط التى كانت فيها طفولتى إلا بعد أن خرجت من الطوق وعشت فى القاهرة وشاهدت عماراتها ومواصلاتها ومحالها فتمردت على دمياط وعلى قيمها وكانت لدى حجتى فى أننى ولدت فى القاهرة فكان من يسألنى أقول بفخر أننى من أبناء العاصمة ثم مع مرور السنوات وجدت نفسى أبحث عن نفسى ولا أجد غير دمياط أجد فيها نفسى وأشعر بأن جذورها القوية التى إمتدت فى داخلى هى التى حمتنى عندما تعرضت لرياح العاصمة ولكننى لم أنكسر وردتنى دمياط التى نموت فيها خلال سنوات الطفولة إلى تعاليمها العفية. والإنسان لا يختار يوم مولده أو أبويه وأهله وأقاربه أو اسمه أو حتى طفولته.. وقدكان مفروضا وقد ولدت فى القاهرة فى منتصف الثلاثنيات من القرن الماضى من أبوين يعيشان فى القاهرة أن أكون قاهرى النشأة، ولكن فى زمن كانت الأمراض تحصد فيه الملايين لعدم توافر وسائل العلاج من أدوية أو عمليات جراحية، فقد ماتت أمى رحمها الله فى سن صغيرة وأنا بالكاد أقف على قدمى، وقد عرفت ذلك من الصورة الوحيدة التى سجلت لى معها وأنا واقف بجانبها. وقد استدعى الأمر خروجنا فى مهمة خاصة إلى إستوديو المصور الشهير فى المدينة ولعله كان الوحيد الذى كان يمارس هذا العمل إذا لم يكن ممكنا التصوير فى ذلك الوقت إلا داخل محال التصوير المتخصصة ووسط إجراءات وطقوس عديدة يتم فيها فرد ستارة سوداء خلف صاحب الصورة وقيام المصور بإدخال رأسه داخل كيس من القماش الأسود يخرج من ماكينة التصوير ويطلب إلى من يصوره الامتثال التام وعدم الحركة إلى أن يسجل الصورة. ولم أعرف لماذا حرص أبى أن يسجل هذه الصورة، كما فاتنى أن أسأله رحمه الله عن ظروفها وأن أشكره على تسجيلها فلولا هذه الصورة ما عرفت شكل أمى طوال حياتى. طبعا اختلف الأمر اليوم وأصبح المولود يصور من أول ساعة تنطلق فيها صرخته عندما يخرج من بطن أمه وبعد ذلك يجرى تصويره آلاف الصور بعد أن أصبح متاحا التصوير بالتليفون وبالكاميرات الديجيتال فى أى مكان وفى كل وقت! فى البيت الدمياطى ماتت أمى رحمها الله قبل أن أكمل الثالثة من عمرى، وقبل أن أشعر بفقدى لها حملنى أبى من القاهرة إلى دمياط لتتولى شقيقته (عمتى) الأرملة أم لخمسة أبناء تربيتى مع باقى أبنائها فى جو عائلى دمياطى أصيل وسط أسرة متوسطة تعمل فى صناعة الحلو. وقد بدأت الأسرة فى معمل متواضع للحلويات راح يكبر تدريجيا حتى جاءت سنوات الحرب العالمية الثانية فصعدت بكثيرين من التجار وأصحاب المصانع الصغيرة إلى آفاق الثراء والغنى. وقد كان من حظى وجود ابن أكبر منى قليلا مما جعلنا قريبين جدا، وهو ما كشف لى مستقبلا أهمية أن يكون للابن فى صغره شقيق يأنس إليه. كانت الأسرة الدمياطية فى ذلك الوقت تعد دولة تحقق اكتفاء ذاتيا يعتمد على نفسه فى توفير مختلف الاحتياجات.. فالخبز يتم خبزه فى البيت ورصه كل أسبوعين فى «النملية» وهى دولاب نصفه العلوى له سلك للتهوية وكانت هذه النملية جزءا أساسيا من البيت لأنه لم تكن هناك الثلاجات التى يتم فيها حفظ المأكولات. ولهذا كان يتم صنع رغيف العيش فى البيوت من النوع الناشف الرقيق والناعم حتى يتحمل فترة التخزين أسبوعين وربما أكثر أما من يريد خبزا طريا فهذا يتم شراؤه من الأفران التى كانت تبيع رغيفا طريا لدنا يطلق عليه العيش الخاص. عمل متواصل فى البيت لم تكن هناك فى ذلك الوقت إمرأة تعمل فى مصلحة أو شركة وكانت الفتاة تعد وتجهز لتكون زوجة تتولى إدارة شئون بيتها وتوفير احتياجاته المختلفة ذاتيا. ولذلك كانت البيوت تقوم بتسييح الزبدة وتحويلها إلى سمن وتخزينها وصنع المربات والمخللات وبعض أنواع الجبن الأبيض والزبادى والعجوة.. حتى احتياجات البيت من الدواجن والطيور والبيض كان يتم توفيرها ذاتيا عن طريق الفراخ والبط والأرانب التى يتم تربيتها معا فى «عشة» خاصة فى السطوح.. غسل الملابس فقط كانت تقوم به سيدة متخصصة تأتى أسبوعيا لتغسل الملابس أمام الطشت والماء الساخن فى الصفيحة بالطريقة التقليدية المعروفة.. ورغم الأعمال العديدة التى كانت تقوم بها السيدة العظيمة عمتى التى كانت تتولى إدارة البيت الكبير بسكانه السبعة لم أشعر أنها اشتكت يوما أو ظهر عليها شعور الضجر.. ومن المؤكد أن هذا الإلتزام الذى عشته فى هدوء داخل البيت الدمياطى هو الذى غرس فى داخلى الإلتزام بالعمل على أساس أن العمل واجب كل فرد.. فاصل ونواصل.