وسط عالم صخب ملىء بالسياسات الاقتصادية الضعيفة والانقسامات السياسية والتحولات الدولية الواسعة والأشكال السلطوية المتعددة.. تجىء الأزمات لتعصف بدول نامية تتطلع إلى الحرية والديمقراطية من خلال صياغة دستور جديد. قدم الكاتب والباحث الأمريكى «جيمس روسنو» كتاباً جديداً بعنوان «صناعة دستور جديد» حول قيام الثورات الشعبية، وضرورة صياغة دستور جديد لإقرار الترابط المنطقى فيما بين الصياغات القضائية والهياكل الحكومية فى مواجهة ديناميكية المركزية واللامركزية. إذ اعتمد على تحليل طبيعة هذه الديناميكية التى تساعد إما على إنجاز الإصلاحات الدستورية وإما صياغة دستور جديد يتوافق وتطلعات الشعوب من أجل حياة كريمة، خاصة أن دستور أية دولة هو بمثابة اتفاق بين سكانها على مجموعة قواعد أساسية تحدد شكل الدولة ونظامها وحقوق وواجبات شعبها، وبناء عليه تصدر القوانين المنظمة لحياة الشعب بمختلف فئاته ومعتقداته، لهذا هناك نقطتان أساسيتان وهما.. أولاً ثبات الدستور بمعنى أنه لا يتغير بسهولة إلا عن طريق استفتاء الشعب، ثانياً أن الدستور هو القانون الأعلى الذى يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة ونظام الحكم، وشكل الحكومة، وينظم السلطات العامة والحقوق والواجبات، الأمر الذى يعنى سد كافة الثغرات من أجل مراعاة المصالح العامة للجميع دون تمييز، بعيداً عن مصلحة فئة أو طبقة أو طائفة على حساب الأخرى، وحتى يتم تجنب حدوث أزمات كبرى أكد الباحث أنه فى حالة قيام الثورات لابد أن يعقبها إقرار دستور جديد فى مواجهة «نظام عالمى جديد»، فى هذه الحالة يصبح الدستور الجديد قادرا على تفعيل هذه الديناميكية فى ظل التحولات الوطنية للسلطة وصولاً إلى الشرعية الشعبية. حدد الباحث «روسنو» ثلاثة أنواع من النظم السياسية، الأول: النظم نصف الحكومية، والثانى: النظم الوطنية، والثالث: النظم الدولية. بذلك فإن من شأن الدستور الجديد أن يوضح أولاً شكل الدولة، هل هى دولة بسيطة الشكل أم أنها دولة مركبة أى ناتجة عن اتحاد فيدرالى، أم اتحاد كونفدرالى، ثانياً يبين نظام الحكم كونه ملكيا أم جمهوريا، وما هى الشروط الواجب توافرها فى شخص ما حتى يصبح رئيساً وكيفية توليه لهذا المنصب، ثالثاً يبين كيف يحكم الرئيس عن طريق نظام رئاسى أم نظام برلمانى، وما هى اختصاصات كل منهما ومسئولياته وحدودها؟، رابعاً يوضح الدستور العلاقات بين السلطات العامة التشريعية والقضائية والتنفيذية واختصاصات كل منها وحدود تلك السلطات، خامساً يبين واجبات المواطن وكيفية أدائه للواجبات والحقوق والحريات وضمانات حصوله عليه وممارسة لها تجاه السلطة، كما أوضح الباحث أن هناك مشكلة أساسية تتلخص فى محاولة معرفة كيفية إقامة بنيان دستورى جديد فعّال من أجل تلاحم الشعوب كافة بعضها مع بعض. هذا كما حدث فى ألمانيا وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية والصين وتايوان، والهنود من السكان الأصليين فى كندا، حيث سادت فكرة الاتحاد والاتحاد الفيدرالى والدولة الديمقراطية القائمة على الدمج والاستقلال والوحدة، أى نفس المبادئ التى يستند إليها الساسة ورجال القضاء، لذا أكد الباحث على دور علماء الاجتماع، أولاً فى عرض وتقديم - طبقاً لخبرتهم - خطة عمل من أجل إيجاد حلول لمختلف المشكلات الدستورية المطروحة، ثانياً تحليل مضمون وجوهر المقترحات لضمان فاعلياتها تحقيقاً للأهداف، الأمر الذى يتطلب توافر الكفاءات من قبل رجال القضاء والباحثين المتخصصين فى العلوم الاجتماعية الذين يقع على عاتقهم ميكانيكية التطبيق على أرض الواقع. كما أن هناك مشكلة قد تواجه صياغة أى دستور جديد وهى مسألة الموازنة بين الأفعال وبين القيم السائدة فى أى مجتمع، خاصة أنه من أهم أهداف أى دستور جديد هو تحقيق التوازن والتوافق وأسلوب حياة الناس، ومن ثم السياسة المتبعة التى يتطلع إليها الجميع، ولحل هذه المعضلة أوضح الباحث أنه لا بد من توافر نقطتين أساسيتين وهما: أولاً الاستعانة بالكفاءات بهدف التحليل السليم دون المساس بالقناعات والمعتقدات العميقة ذات الجذور، ثانياً القيام بدراسات مقارنة لنظم بعض الدول التى واجهت ظروفا دستورية مماثلة، من هنا يصبح الاختيار سهلاً بما يتوافق وظروف كل دولة، أى طبقاً للواقع الاجتماعى والسياسى والاقتصادى، كما حدد الباحث ثلاث نقاط لضمان تحقيق ذلك التوافق الذى يلقى قبولاً عند جموع الشعب.. أولاً الأخذ فى الاعتبار مسألة التوجهات والمعايير والقوانين والأفكار التى يتقاسمها المجتمع ككل، ثانياً الاستفادة من التجارب التاريخية مع مرونة المؤسسات لتجنب مسألة رفض الدستور الجديد، ثالثاً مراعاة الظروف السياسية من حيث قلب أنظمة الحكم أو الاستيلاء على السلطة، إنها الضمانات الوحيدة التى تضمن اختفاء أى نظام دستورى قديم، خاصة أن جذور ومنابع أى نظام اجتماعى لا يمكن لها أن تتحقق عبر المواثيق، والدساتير، والمراسيم، بل إنها تنبع أساساً من عقل وقلب الشعب، بما يضم من عادات وتقاليد ومعتقدات، فى ظل هذه القيم والمبادئ مجتمعة يمكن أن يولد دستور جديد يقوم على التوافق والشرعية فى نفس الوقت تجنباً لأية حالة من حالات الفوضى، خاصة أن التحولات السريعة التى تشهدها النظم السياسية مؤخراً، جعلت من الثورات الطريق الوحيد أمام الجماهير لرفض الأنظمة الديكتاتورية والمطالبة بحكومات ديمقراطية، ذلك التطور الذى يوضح عولمة الأنظمة السياسية، حيث لم يعد التغيير مرتبطاً بمنطقة بعينها، بل بات مطلباً شمولياً.