لا مفر من الإقرار بأن ثمة أخطاء وقعنا فيها جميعاً بعد نجاح الثورة، ربما بفعل نشوة النصر، وربما لأنه لم تكن للثورة قيادة واضحة محددة، وربما أيضاً بفعل الارتباك، حيث بدا أن الجميع.. الشعب وشباب الثورة وحتى القوات المسلحة قد فوجئوا بالوضع الجديد متمثلاً فى فراغ سياسى ودستورى.. لم يكن أحد مهيئاً لحدوثه أو مستعداً له، رغم أنه مطلب الشعب الذى بدا أنه لا رجوع عنه كان إسقاط النظام ورحيل رئيسه، ورغم أن الجيش انحاز للشعب وتعهد بأنه الضامن للثورة، ولقد كان الخطأ الأول أن الثورة لم تكن لديها أجندتها السياسية وتصوراتها الواضحة لما بعد إسقاط النظام. ولذا فإنه يمكن فى ضوء غيبة تلك الأجندة السياسية تفسير أسباب الحالة الضبابية السائدة فى المشهد السياسى بعد المائة يوم الأولى من سقوط النظام السابق وتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد لمرحلة انتقالية مدتها ستة أشهر غير أن المؤشرات تؤكد أنها ستطول لأكثر من ذلك، حيث بدا أن الوضع الراهن به كثير من الالتباس إذ يتساءل الكثيرون: هل ما حدث كان ثورة أم انقلابا أم حركة تغيير تستهدف اصلاح النظام السياسى؟! مع هذا الوضع الملتبس مضافاً إليه ما يجرى من مشاهد وأحداث فإن ثمة مخاوف حقيقية على الثورة تتزايد يوما بعد يوم، خاصة مع استمرار الانفلات الأمنى وغيبة الشرطة وتصاعد ظاهرة البلطجة وكلها بفعل فلول النظام السابق وحزبه المنحل وجهازه القمعى «أمن الدولة» المنحل أيضاً، وهى مخاوف تتضاعف مع تردى الأوضاع الاقتصادية ووصولها إلى مرحلة الخطر بحسب تحذيرات المجلس العسكرى، حيث لا يخفى أن أيادى فلول النظام السابق تعمل بشكل مباشر وغير مباشر على تأزيم الوضع الاقتصادى. *** حقيقة الأمر أن استمرار الانفلات الأمنى والبلطجة وكذلك دخول الاقتصاد إلى مرحلة الخطر يؤكدان أن حركة تطهير واسعة وضرورية كان يتعين إجراؤها فى كثير من مواقع ومؤسسات الدولة، ولكن تم إغفالها أو لم تتم بالقدر الكافى، وأولها أجهزة الشرطة المنهارة والمنسحبة، إذ يبدو غير مفهوم ولا مقبول أن تظل قيادات شرطية فاسدة فى مواقعها حتى الآن خاصة فى جهاز أمن الدولة المنحل، باعتبار أن تأخير التطهير من شأنه إعاقة إعادة تشكيل وهيكلة أجهزة الشرطة وإعادتها للعمل لاستعادة الأمن الغائب. وما ينطبق على الشرطة ينطبق بالضرورة على غيرها من المواقع والمؤسسات والهيئات فى الجهاز الحكومى والجامعات والإدارة المحلية وأيضاً الإعلام الذى مازال فى حاجة ضرورية إلى تطهير وتغييرات ليس فى كثير من قياداته ولكن أيضاً فى سياساته وأساليب ومناهج أدائه.. مهنياً وسياسياً. *** فى هذا الوضع الملتبس ووسط هذه الضبابية السياسية، وحيث بدا أن المجلس العسكرى الذى يدير شئون البلاد هو الذى يحكم بينما بدت الحكومة الانتقالية التى تحكم هى التى تدير، إذ أنها ومع الأخذ فى الاعتبار أنها ورثت أوضاعا اقتصادية فاسدة، إلا أنها لم تقدم حتى الآن برنامج عمل أو خطة عاجلة واضحة للخروج من الوضع الاقتصادى الخطير، بل إنها لم تعد خطة اقتصادية مستقبلية، وهى بذلك تكون قد اختزلت مهمتها فى تسيير الأعمال حتى نهاية المرحلة الانتقالية والتى ستتحول بذلك إلى مرحلة انتظار بدلاً من أن تكون مرحلة إعداد وتخطيط لمستقبل مصر على الأقل فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية. *** وسط هذه الحالة الضبابية وفى هذا الوضع الملتبس تأتى التسريبات الإعلامية المريبة والتى بدت «بالونة» اختبار فى محاولة لجس النبض الشعبى بالحدث عن إمكانية العفو عن الرئيس المخلوع حسنى مبارك وإلغاء محاكمته مقابل اعتذاره للشعب عما ارتكبه من أخطاء (هى فى الحقيقة جرائم) وكذلك تنازله عن أمواله وممتلكاته وأرصدته فى البنوك (المقصود بالبنوك المصرية فقط).. تأتى هذه التسريبات لتؤكد أن ثمة مخاوف حقيقية من مؤامرة على الثورة والالتفاف عليها من جانب قوى النظام السابق والثورة المضادة والتى بدا أنها لا تزال قادرة على التأثير ومحاولة انتهاك القانون! ومما يثير الدهشة ويضاعف من المخاوف أن تلك التسريبات تواكبت مع قرار جهاز الكسب غير المشروع بإخلاء سبيل سوزان ثابت زوجة الرئيس المخلوع بعد ساعات من قرار حبسها احتياطيا 15 يوما على ذمة التحقيقات، وذلك بعد تنازلها عن أرصدتها وممتلكاتها (فى الداخل) لصالح الدولة والتى تبلغ 24 مليون جنيه! وفى نفس الوقت فقد جاء قرار إخلاء سبيل زكريا عزمى بعد أيام من قرار حبسة احتياطيا 15 يوما صادما للرأى العام، خاصة أنه جاء فى حيثيات القرار أن مصدر أمواله وممتلكاته هدايا من الحكام والمسئولين العرب! وبصرف النظر عن الصدمة التى تلقاها الرأى العام بإخلاء سبيل سوزان ثابت وزكريا عزمى، فإن القرارين مخالفان للقانون وللدستور، إذ لا يجوز فى الأول تبرئة اللص الذى يعيد ما سرقه، إذ يجرم القانون والدستور تلقى أى مسئول عام لأية هدايا! *** إذا كانت التحقيقات مع الرئيس المخلوع والتى اقتصرت حتى الآن على تضخم الثروة فقط وكذلك مع أفراد أسرته ورموز نظامه قد طالت باكثر مما يجب بينما ينتظر الشعب تقديمهم لمحاكمات عاجلة وعادلة أيضاً، فإن قرارى إخلاء سبيل زوجة الرئيس ورئيس الديوان السابق وما تواكب معها من تسريبات بشأن العفو عن الرئيس تثير رائحة كريهة تزكم الأنوف تشير إلى توجه خطير يجرى الإعداد لتمريره بإفلات الرئيس المخلوع وأسرته وربما رموز نظامه المقربين.. زكريا عزمى نموذجا.. من المحاكمة والعقوبة العادلة.. ولا عزاء للثورة! حتى مع التسليم باستعداد الرئيس ونجليه وزوجته للتنازل عن أرصدتهم وممتلكاتهم فى مصر فماذا عن الأموال المنهوبة والمهربة فى الخارج والتى قال الأستاذ محمد حسنين هيكل فى حديثه إلى «الأهرام» أنها وفقا لوثائق مؤكدة تتراوح ما بين 9 إلى 11 مليار دولار!! *** ثم إن اختزال التهم الموجهة إلى الرئيس المخلوع وأسرته ورموز نظامه الفاسدين فى مجرد تضخم الثروة والكسب غير المشروع ومن ثم إمكانية إفلاتهم من المحاكمة والعقوبة فى حالة ردهم لهذه الأموال، إنما يعد اختزالا مخلاً لما ارتكبوه من جرائم بشعة فى حق الوطن وفى حق الشعب من استبداد غاشم وقهر وظلم وتخريب لمؤسسات الدولة وتجريف لموارد وأصول الدولة وتزوير لإرادة الشعب فى كل ما جرى من استفتاءات وانتخابات، والأخطر من ذلك كله والأكثر إجراما هو إقدام الرئيس المخلوع على توريث رئاسة الجمهورية لابنه وهى الخطوة التى كان ينتوى مبارك تنفيذها فى شهر مايو الحالى لو قدر له البقاء حسبما أعلن المجلس العسكرى، وهى جريمة فى حق النظام الجمهورى الذى أقسم على الحفاظ عليه بينما سعى لتحويله إلى ملكية! وإذا كانت مصر الثورة لم تحاكم مبارك وأسرته ورموز نظامه الفاسدين أمام محكمة ثورة عسكرية حسبما حدث فى كل الثورات، وكان التوافق الوطنى العام على ضرورة توفير محاكمات عادلة أمام القضاء المدنى، إلا أنه يبقى مرفوضا الحديث عن عفو عن الجرائم التى ارتكبوها فى حق مصر والمصريين طوال ثلاثين سنة. *** إن الخروج الآمن من المرحلة الانتقالية ومن ثم الخروج من الوضع الراهن الملتبس وما يكتنفه من ضبابية يستلزم بالضرورة إعادة ترتيب تدابير نقل السلطة، بحيث تبدأ بانتخاب رئيس جمهورية جديد فى أسرع وقت تنقل إليه السلطة حتى يكون للدولة رأس منتخب يحكم ويدير، وهو إجراء أكثر ديمقراطية، وأكثر توافقا مع الثورة مقارنة باقتراح الأستاذ هيكل بأنه لا يجد حرجا فى تسمية المشير طنطاوى رئيساً للدولة لمدة سنتين، إذ يبدو هذا الاقتراح مرفوضا من المجلس العسكرى ومن المشير والذى تعهد بنقل السلطة إلى شرعية منتخبة فى نهاية المرحلة الانتقالية، وإذ يبدو الاقتراج أيضاً وكأن المجلس العسكرى قد انقلب على النظام السابق، بل انقلب على الثورة أيضاً. *** يبقى أنه إذا كان مقصودا من التسريبات الإعلامية حول اعتذار الرئيس للشعب ورد ممتلكاته وأمواله للدولة جس نبض المصريين، فإن الراى العام وجموع المصريين يرفضون مثل هذه الصفقة ويرونها مؤامرة على الثورة، لذا لزم التنويه.