حالة من القرف الشديد تنتابنى وأنا أتابع أخبارالثورات العربية على شاشات التليفزيون. فباستثناء الثورتين السلميتين التونسية والمصرية، لا يغيب عن نظرى مشهد الدبابات و العربات المدرعة وهى تقتحم درعا وحمص وبانياس وغيرها من المدن والبلدان السورية، ولا القناصة الذين يصوبون بنادقهم من وق أسطح المنازل فى تعز وصنعاء على أبناء الشعب اليمنى المطالبين بإسقاط النظام. أما فى المشهد الليبى فحدث ولا حرج. فالانقسام على أشده و عمليات التشويه و التضليل التى تمارسها الآله الإعلامية الجبارة التى تقف خلفها الجهات التى تملك الكثير من المال على أشدها ايضا. فى البداية، خرج ثوار أنقياء أطهار يطالبون بالحرية و العدالة الاجتماعية وهو ما حدث ويحدث فى كل الثورات العربية- وذلك فى مواجهة حاكم ديكتاتور طاغية ظالم انفرد بحكم البلاد لما يقرب من 42 عاماً أويزيد وجعل منها ملكية خاصة لأولاده من بعده. بشهادة الجميع كانت الثورة شعبية وشرعية فى بدايتها وازدادت شرعيتها عندما هدد القذافى الديكتاتور بسحق الثوار الذين وصفهم بالجرذان ومطاردتهم (فرد فرد ودار دار وزنجه زنجه) وعندما خرج ابنه وخليفته سيف الإسلام، ليزف البشرى لليبيين من أنصاره بإنهاء المهمه فى بنى غازى خلال 48 ساعةعلى الأكثر. وفجأة، وربما كان هذا الخطأ الأكبر الذى وقع فيه الثوار، تحولت الثوة من ثورة سلمية إلى عسكرية. فقد أعلنوا عن استيلائهم على مخازن أسلحة تابعة لنظام القذافى، وهو ما أفقدهم ميزة أن تبقى ثورتهم سلمية ولو لفترة وجيزة. وشاهدنا الثوار وهم يعتلون الدبابات ويحملون الآر بى جى ويلوحون بعلامة النصر كلما حرروا مدينة أوموقعاً. وعندما تحررت بنى غازى والبيضاء ودرنة وغيرها وأصبح القذافى ونظامه آيلاً للسقوط ودخلت الولاياتالمتحدة على الخط وبدأت تتحدث عن احترام إرادة الشعوب انتظارًا لما قد تسفر عنه التطورات الداخلية. ولم تغب المصالح الخاصة فى نفس الوقت بين أمريكا وأوروبا من ناحية، وبين النظام من ناحية أخرى. وتزامن ذلك مع قرار جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجى بدعم دولى لفرض حظر الطيران فى الأجواء الليبية، الأمر الذى مهد بالطبع لصدور قرار مجلس الأمن رقم 1973 استنادًا إلى البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة. والملاحظ هنا أن الثوار الليبيين أنفسهم اعلنوا رفضهم التام للتدخل الأجنبى بكافة أشكاله، وطالبوا فقط بالحظر الجوى لحمايةالمدنيين من طائرات القذافى وانتقامه. وبناء عليه،رحب الجميع بقرار مجلس الأمن الذى يلبى رغبة الثوار باعتباره الخيار الوحيد لمنع المجازر الدموية فى بنىغازى ومصراتة على أيدى كتائب العقيد وأولاده. لكن الإنقلاب الحقيقى فى الموقف حدث عندما أخذ حلف الناتو يطور من عملياته، ويخرج عن تفويض قرار مجلس الأمن، بقصف مواقع الطرف الآخر وتدمير قواته الأرضية بأطنان من القنابل، وهو ما دفع عمرو موسى، أمين عام الجامعة العربية إلى القول بأن طلب الجامعة للتدخل الأجنبى لم يكن بهدف حماية ليبيين وقتل ليبيين آخرين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد سارع كل من وزيرالدفاع الإيطالى،أجنازيولاروسا، وزير الدفاع الفرنسى، جيرار لونجيه، بإرسال مستشارين عسكريين لمساعدة الثوار، هو ما يتعارض مع روح قرار مجلس الأمن الخاص بليبيا. والأكثر من هذا أن دول الناتو قررت تمكين الثوار من بيع البترول الليبى الذى يعتبر ملكاً للشعب كله، لكى يستطيعوا شراء أسلحة حديثة يواجهون بها كتائب القذافى وأولاده. المشهد كما نراه إذن يتمثل فى حاكم ديكتاتور ليبى يستعين بقوات مرتزقة سواء من أفريقيا أو من بعض الدول العربية المجاورة، فى مواجهة معارضة مسلحة تستعين هى أيضاً بقوات حلف الناتو الذى يضم أكثر من أربعين دولة بزعامة الولاياتالمتحدة. وفى الحقيقة فإنه ليس جديداً على ليبيا و الليبيين مواجهة دول مثل أمريكا وفرنسا وإيطاليا، ففى عام 1943 وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء، جرى تقسيم ليبيا المستعمرة الإيطالية السابقة إلى ثلاث ولايات. وليس هناك من شك فى أن غالبية الليبيين يريدون رحيل القذافى وأولاده ونظامه الدموى، لكن السؤال هو ما الثمن الذى ستدفعه ليبيا و شعبها لحلف الناتو مقابل قيامه يهذه المهمة؟ لا يمكن لأى مراقب إلا أن يستحضر فى هذه الحالة سيناريو أفغانستان وسيناريو تدمير وتفتيت وحدة العراق، ذلك لأن التجربة التاريخية الحية والملموسة تفرض نفسها عند المقارنة، بعد ما تكشف حجم الكذب و النفاق الدولى الذى مارسته واشنطن والدول الأوروبية الحليفة فى تبريرها للحرب على العراق. نحن بصريح العبارة أمام حرب أهلية.. أمام ثورة ليبية تعرضت للخطف من قبل عسكريين وسياسيين جاءوا من قلب نظام القذافى. بل أننا نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول إن نظام القذافى يقاتل نفسه. ذلك لأن قادة المعارضة من عسكريين وسياسيين كانوا فى خدمة النظام الدموى على مدى أكثر من 40عاماً. كما أن الذين انقلبوا على النظام وابتعدوا عن الساحة من أمثال موسي كوسا لا يمكنهم غسل أياديهم هكذا بسهولة من دماء الشعب الليبي ذلك لأن موسى كوسا بالذات، عمل رئيساً للمخابرات الليبية لما يقرب من عشرين عاماً. وهو الجهاز الذى قام ذات يوم بحرق أكثر من 1200 سجين ليبي فى سجن أبو سليم. ومن شبه المؤكد أن الوضع فى ليبيا سوف يبقى على حاله مادام أن هناك تدخلاً أجنبيًا فى الشأن الليبي. ومن المؤكد أن الطريق لتسوية الأزمة لن يكون إلا من خلال الحوار السياسى والتفاوض بين السلطة فى طربلس و المعارضة فى بنى غازى.ومن الممكن أن يتم ذلك بمشاركة الأممالمتحدة، حتى لا نرى ليبيا مقسمة شرقية وغربية.