فجرت أحداث إمبابة مخاوفنا جميعا على الحاضر والمستقبل.. ووضعت هذه الأحداث الملح على الجرح كما يقولون، وأصابتنا بصدمة مروعة جعلت كثيرين يتساءلون: إلى أين تقودنا مثل هذه الأحداث؟.. أى مصير أسود تقودنا إليه إمبابة وأخواتها؟!.. التساؤل يصبح تشاؤماً بعد أن أعلنت مجموعة من الأقباط عزمهم على التوجه إلى السفارة الأمريكية بالقاهرة لكى يطلبوا رسميا الحماية الدولية للأقباط فى مصر!.. هكذا كشفت الفتنة الطائفية عن وجهها القبيح بدون خجل أو حياء.. وهكذا تهاوت شعارات الوحدة الوطنية واتحاد الهلال مع الصليب والمواطنة وغيرها.. كما لو كانت صرحا من خيال.. فهوت!.. ومع ذلك كله فإننا نقع فى خطأ فادح لو تصورنا أن المشكلة هى الفتنة الطائفية وأن ما حدث فى إمبابة هو انعكاس لها.. المشكلة فى الحقيقة أكبر بكثير جداً من كونها فتنة طائفية.. صحيح أن هناك احتقاناً طائفياً يشبه جبل الجليد.. ما خفى منه كان أعظم.. لكن ذلك لا يعنى أن ما حدث كان مجرد فتنة طائفية.. إذا لم تكن فتنة طائفية.. ماذا تكون؟!.. المشكلة اسمها الحقيقى هيبة الدولة.. التى تتآكل بالتدريج.. والتى يمكن أن تؤدى إلى انهيار الدولة.. انهيار مصر!.. وقبل أن نمضى إلى ما هو أبعد أرجو أن نعيد معاً قراءة التقارير الأمريكية والبريطانية التى نشرتها الصحف فى الأسبوع الماضى.. يقول تقرير لمعهد المالية الدولى الأمريكى إن مصر تواجه خطر الانهيار.. ليس السبب هو الفتنة الطائفية وحدها لكن هناك احتجاجات اجتماعية تتزايد يوما بعد يوم.. كما أن الأوضاع الاقتصادية تعانى الكثير فى ظل استمرار حالة الكساد وتوقف عدد كبير من المصانع وكذلك هروب المستثمرين.. التقرير الأمريكى يقول إن الأرقام تؤكد ذلك فمعدل النمو لن يزيد بأى حال على 2.5% كما أن معدلات التضخم ارتفعت لتصل إلى 11.5%.. بالإضافة إلى تراجع حاد فى إجمالى الناتج المحلى يقدر بنحو 3.2%.. ومن ناحيتها تؤكد التقارير البريطانية نفس المعنى.. مصر تواجه خطر الانهيار، وتركز على مسألة الفتنة الطائفية فتقول: إن هذه الفتنة ستعرقل مسيرة التحول الديمقراطى، وإن العديد من الأقباط أصبحوا مؤمنين بأن ثورة 25 يناير أطلقت العنان لصعود قوى إسلامية يجنح بعضها للعنف.. والأخطر أنها تسعى لانهيار القانون والدولة.. التقارير البريطانية تتحدث أيضاً عن تردى الأوضاع الأمنية وتقول إنها خطر حقيقى يمكن أن يساهم إلى حد كبير فى انهيار مصر!.. ولسنا فى حاجة إلى مثل هذه التقارير الخارجية فأهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل.. لكن المشكلة أن هناك من يزعم أن ما يحدث فى مصر أمر طبيعى يحدث مع أى ثورة تحدث فى أى مكان فى العالم.. وأن التركيز على المخاوف والأخطار هو محاولة لاستخدام «الفزاعة» التى كان النظام القديم يستخدمها باستمرار!.. فى كل الأحوال هيبة الدولة تتآكل يوما بعد يوم وتتناقص بعد كل حادثة من نوعية حادثة إمبابة وغيرها.. وفى كل الأحوال.. فإن استمرار الغياب الأمنى وتردى الأوضاع الاقتصادية والإصرار على المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات.. وتفجر مشكلة الفتنة الطائفية.. كل ذلك يقودنا إلى طريق واحد.. الانهيار!.. *** يمثل تردى الأوضاع الأمنية العنصر الأساسى والرئيسى فى معادلة الانهيار.. فمن المؤكد أن استقرار الأوضاع الأمنية وقيام أجهزة الأمن بمهامها على الوجه الأكمل.. كان من الممكن معه ضبط مسألة الفتنة الطائفية والاحتجاجات والإضرابات والمظاهرات الفئوية.. ومن الطبيعى أن يكون لذلك كله انعكاساته الإيجابية على الوضع الاقتصادى.. أحد أهم أسباب تردى الأوضاع الأمنية هو امتناع أفراد الشرطة عن استخدام أسلحتهم فى مواجهة حالات البلطجة والخروج على القانون.. خوفاً من المحاكمة وبتأثير ما تعرض له بعض ضباط الشرطة من ملاحقات قانونية لقيامهم بإطلاق النار على المتظاهرين الذين اقتحموا أقسام الشرطة خلال أيام الثورة.. وعندما نجح 88 مسجونا من الهروب من قسم الساحل بدون أن يتعامل معهم ضباط القسم وجنوده.. اجتمع مجلس الوزراء وأصدر قرارا بتفويض وزارة الداخلية فى التعامل بحسم مع حالات الخروج على القانون.. بما فى ذلك استخدام الأسلحة.. القرار يبدو غريبا وعجيبا كأن مجلس الوزراء قد أصدر قرارا بأن تتولى وزارة الرى تحديد كمية المياه المنصرفة من السد العالى.. أو أن تتولى وزارة التعليم وضع أسئلة الامتحانات العامة!.. التعامل بحسم مع حالات الخروج على القانون حق أصيل وواجب أساسى لوزارة الداخلية لا تحتاج معه لقرار من مجلس الوزراء.. ومع ذلك صدر القرار وتصورنا جميعا أنه سيعيد الأمور لنصابها ويردع البلطجية والخارجين على القانون.. الذين يساهمون فى إهانة هيبة الدولة والاستهانة بها.. فماذا حدث؟ اقرأ معى عناوين ما نشر فى صفحة واحدة من صفحات الحوادث فى إحدى الجرائد المصرية بعد 24 ساعة على قرار مجلس الوزراء! هروب 5 مساجين من قسم البساتين وإشعال النار فى قسم دار السلام - الأهالى يقذفون قوات الشرطة بقنابل المولوتوف ويطلقون الأعيرة النارية عليها - البدو يقطعون طريق جنوبسيناء 10 ساعات للمطالبة بإسقاط الأحكام القضائية الغيابية - متظاهرون من البدو يحاصرون محكمة جنوبسيناء ويشعلون النار فى الأشجار المحيطة بها - محاولة الاعتداء على أحد المستشارين بمحكمة جنوبسيناء.. والذى أصدر حكما بحبس أحد أبناء البدو 7 سنوات فى جريمة حيازة مخدرات ونجاحهم فى تهريب المتهم - 4 ذئاب بشرية يختطفون فتاة ويتناوبون اغتصابها أسفل كوبرى النزهة بالإسكندرية!.. هل تريد المزيد؟!.. وإذا كان ذلك كله قد حدث بعد تفويض مجلس الوزراء لأفراد وضباط الشرطة باستخدام أسلحتهم.. فماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يصدر مثل هذا التفويض؟!.. المعنى أن أحدا لم يعد يخاف من القانون والعقاب.. وأننا لم نعد آمنين على حياتنا وممتلكاتنا.. والمعنى أن الدولة فقدت الكثير من هيبتها.. كل ذلك يؤدى إلى الانهيار!.. خاصة أن الشارع الذى يشكو من غياب الأمن لا يهدأ ولا يريد أن يهدأ!.. *** كان من المفترض أن تنخفض أعداد المظاهرات والاعتصامات الفئوية ويقل حجمها.. ليس لأن الحكومة استجابت لعدد غير قليل منها.. وإنما لأنه من المستحيل على الحكومة الاستجابة الآن لكل المطالب فى توقيت واحد.. مع التسليم بأن معظمها مطالب عادلة.. لكن الغريب أن حجم هذه المظاهرات والاعتصامات شهد تزايدا ملحوظا وغير مبرر فى الفترة الأخيرة.. المنطق يقول إن الفئات الأقل وعيا هى المسئولة عن استمرار ظاهرة الاعتصامات والإضرابات والمظاهرات وتزايدها.. ولذلك نجد أن العمال فى المصانع على سبيل المثال أكثر الفئات احتجاجا ومطالبة بزيادة الأجور والمرتبات.. المنطق يقول ذلك لكن الواقع له رأى آخر.. ففى الوقت الذى بدأ فيه عدد غير قليل من العمال يتفهمون للظروف الاقتصادية الحرجة التى تمر بها البلاد، ويحرصون على أن يستمر إنتاج المصانع التى يعملون بها، ويرفضون القيام بأى تظاهرات فئوية.. فى نفس الوقت نجد فئات من المفترض أنها أكثر وعيا من غيرها تدخل على خط التظاهرات والاحتجاجات والإضرابات!.. الأطباء مثلاً أعلنوا عن إضراب عام لتحسين أجورهم.. عندهم كل الحق فى المطالبة بزيادة أجورهم لأنها فى الواقع ضئيلة بشكل يدعو للخجل.. لكنهم يملكون الوعى الكافى لإدراك أن الحكومة غير قادرة فى ظل الظروف الاقتصادية الحالية على الاستجابة لمطالبهم.. ثم إن الأطباء على وجه التحديد يتعلق عملهم بحياة الناس فهل يعرضون حياة الناس للخطر من أجل مطالب مادية.. مهما كانت عادلة؟!.. أساتذة الجامعات الذين يمثلون الفكر والعقل المجتمعى.. كان لهم أيضاً موقفهم الغريب.. فقد قاموا بتنظيم إضراب ووقفات احتجاجية لأن لهم مطالب.. من هذه المطالب إقصاء كل رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام بحجة أنهم معينون وليسوا منتخبين!.. هل هذا هو الوقت المناسب؟!.. ثم إن تغيير نظام اختيار رؤساء الجامعات والعمداء يحتاج إلى قوانين لابد أن تتغير.. مرة أخرى.. هل هذا هو الوقت المناسب؟!.. هل هناك خلاف بعد ذلك حول الآثار المدمرة التى تحدثها المظاهرات والإضرابات والاعتصامات؟.. هل هناك خلاف على أنها تقودنا إلى طريق الانهيار؟!.. من يبعدنا عن هذا الطريق؟!.. *** حاولت الحكومة من قبل إظهار العين الحمراء.. فأعلنت عن قانون بمرسوم يجرم التظاهرات والاعتصامات التى تعطل العمل والإنتاج.. لكنها لم تستخدم هذا القانون مرة واحدة!.. كشّرت الحكومة عن أنيابها فى مواجهة الخارجين على القانون فى قنا.. لكنها سرعان ما تراجعت وأعلنت الاستجابة لمطالب المعتصمين الذين عطّلوا القطارات وعطّلوا معها كل مظاهر الحياة.. وليس ذلك لوما للحكومة فهى بالظروف الحالية غير قادرة على مواجهة المظاهرات والاعتصامات ومعالجة التردى الاقتصادى.. أما الفتنة الطائفية فهى تحتاج لجهود خارقة أكبر من قدرة الحكومة.. وأما الغياب الأمنى فهو المشكلة المستعصية التى لا يمكن للحكومة وحدها أن تحلها.. مرة أخرى ماذا نفعل.. ومن يبعدنا عن طريق الانهيار؟!.. الحل الوحيد هو القوات المسلحة.. أعلم أنها تحملت ما يزيد على الاحتمال وأنها تقوم بأدوار ليست من اختصاصها لكن فى النهاية القوات المسلحة هى المسئولة عن أمن مصر القومى.. ليس على الحدود فقط وإنما فى كل مكان وزمان.. وليس خافيا أن القوات المسلحة تتعامل بحساسية مع مسألة الأمن، ليس لشىء إلا لأنها حريصة على أن تبقى صورتها ناصعة البياض.. لكن هل يعنى ذلك أن نتجاهل أمن مصر القومى؟!.. *** أمامنا طريقان.. سكة السلامة وسكة الندامة كما يقولون.. أمامنا الطريق الذى يحتاج إلى الهدوء والاستقرار.. وأمامنا الطريق الذى لن يؤدى إلا لانهيار البلاد.. انهيار مصر.. ومن حُسن الحظ - وربما من سوء الحظ - أن اختيار الطريق فى أيدينا!.