كان الله فى عون الدكتور عصام شرف وحكومته.. ليس فى ذلك أى نوع من المجاملة.. أو حتى شبهة، لأن الواقع يؤكد أن حكومة شرف تحتاج هذا العون أكثر بكثير من أى حكومة سابقة.. ولا أبالغ لو قلت ولاحقة أيضًا! فى الماضى كان الوزراء والمسئولون بصفة عامة يستخدمون عبارة “أكلاشيهية” إن صح التعبير.. عند اختيارهم لمناصبهم فيقولون بتواضع مفتعل: “إن منصبهم تكليف وليس تشريف”.. مع أنهم كانوا يرقصون فرحا بالتشريف ولا يتحملون عناء التكليف!.. الدكتور عصام شرف ووزراء حكومته فى الواقع كادوا يكونون أول وزراء فى تاريخ مصر يقبلون المنصب الوزارى باعتباره تكليفا وليس تشريفا.. بل إننى على ثقة من أنهم جميعا - وأولهم الدكتور شرف نفسه - يتمنون لو أنهم أغمضوا عيونهم وفتحوها ليجدوا أنفسهم وقد انتهت الفترة الانتقالية وانتهت معها مهمتهم!.. لا أتحدث فقط عن المهام الصعبة الملقاة على عاتق الحكومة سواء فيما يتعلق بالجانب الاقتصادى أو الأمنى أو الاجتماعى أو غيرها.. وإنما أتحدث أيضا عن أزمات تواجهها الحكومة كعرض مستمر.. بنجاح منقطع النظير!.. أزمات تشبه القنابل الملغومة التى تنفجر فجأة بدون سابق إنذار!.. أخر هذه الأزمات إن لم تكن أخطرها.. أزمة قنا أو محافظها اللواء عماد شحاتة ميخائيل الذى فجر اختياره غضب أبناء المحافظة فقرروا تنحيته!.. تظاهر الغاضبون واعتصموا أمام مبنى المحافظة، ثم قرروا القيام بنقلة نوعية للتعبير عن غضبهم.. فقاموا بقطع خطوط السكك الحديدية ومنع القطارات من التحرك فأصيبت حركة النقل بشلل كبير. وفرضت الأزمة نفسها فرضا على حكومة الدكتور شرف.. فهناك أولا محافظة بأكملها أصابها الشلل وتعطلت فيها مظاهر الحياة اليومية.. فانعكس ذلك بالسلب على أبناء المحافظة.. ثم إن مصالح المواطنين من أبناء المحافظة ومن غير أبنائها أصابتها أضرار بالغة نتيجة توقف حركة السفر والنقل. السياحة أيضاً كان لها نصيبها من الأضرار التى سببتها تظاهرات أبناء قنا وإصرارهم على عزل المحافظ «المسيحى»!.. السياحة فى الأساس تواجه مأزقا صعبا فإذا أضيف له مأزق إلغاء رحلات السياح المسافرين إلى المناطق الأثرية فى الأقصر وأسوان فإن المأزق يتحول إلى كارثة!.. ثم إن الأزمة عبرت بوضوح عن الوجه القبيح للفتنة الطائفية فى مصر.. فاعتراض أبناء قنا على المحافظ الجديد لم يكن لأنه ينتمى إلى النظام القديم ولا لأنه كان من المنتمين لجهاز أمن الدولة الذى يتمتع بسمعة سيئة.. ولا لأنه كان عضوا بالحزب الوطنى أو أحد قياداته.. الاعتراض كان لأنه مسيحى فقط!.. هل هناك مصيبة أكبر من ذلك؟!.. مصر التى يؤكد الجميع فيها توافقهم على مسألة الوحدة الوطنية ومبدأ المواطنة.. تخرج فيها مظاهرة بهذا الحجم وبهذه النوعية لأسباب تتنافى تماما مع الوحدة الوطنية ومبدأ المواطنة؟!.. الأزمة أكدت أيضًا أن التيارات الدينية التى غادرت لأول مرة مكانها التقليدى وراء ستار المسرح إلى خشبة المسرح.. تبطن غير ما تظهر.. وتتحدث عن شعارات لا تؤمن بها.. بل تعمل وتخطط لتحقيق عكسها!.. يجب ألا ننسى أيضًا أن الأزمة كان لها جانبها الخطير إن لم يكن أخطرها.. وهو الخروج الجماعى على القانون.. فليس هناك شك أن قطع الطريق وتعطيل حركة القطارات يمثل نوعا خطيرًا من الخروج على القانون يستوجب المحاسبة والمساءلة والعقاب.. بل والردع.. هكذا كانت طبيعة الأزمة التى تفجرت فجأة فى وجه حكومة شرف فوجدت نفسها مضطرة للتعامل معها.. وقد حاولت فى البداية أن تتعامل معها بالحكمة والعقل.. ثم وجدت أنه ليس هناك من يصغى لصوت الحكمة والعقل فلجأت إلى بعض الرموز الدينية والسياسية تستعين بهم لإخماد الفتنة دون جدوى.. واضطرت الحكومة للجوء لسياسة «العين الحمراء» فأعلنت غضبها وقالت - فى بيان رسمى صادر عن مجلس الوزراء - إن ما حدث خروج واضح على القانون لن تسكت عنه الحكومة!.. لكن العين الحمراء سرعان ما تلاشت بعد أن تزايد حجم المتظاهرين.. ووجدت الحكومة نفسها فى مأزق لا تحسد عليه فلجأت إلى حل لم يخطر على بال أحد.. وأظنه غير مسبوق فى تاريخ الحكومات السابقة واللاحقة.. تجميد نشاط المحافظ المسيحى لمدة ثلاثة شهور وتكليف سكرتير عام المحافظة بإدارة أعمال المحافظة.. وانفرجت الأزمة أو على الأقل انفرجت مؤقتًا.. وأعلن المعتصمون والمتظاهرون أنهم سينظمون «مليونية» أطلقوا عليها اسم الكرامة والارادة الشعبية. ويعلن الدكتور عصام شرف أنه سيشارك أبناء قنا مليونيتهم.. ويتعهد شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب بعدم ملاحقة المشاركين فى اعتصامات قنا قضائيا.. ويهدد بالاستقالة إن تمت محاسبتهم!.. هل كان الخطأ فى اختيار المحافظ أم فى التعامل مع الأزمة.. أم فى الحل الذى توصلت إليه الحكومة لإنهاء الأزمة؟!.. *** المحافظ طبقا للقانون الحالى يعتبر ممثلا لرئيس الجمهورية فى محافظته.. ومن ثم فإن رئيس الجمهورية هو الذى يصدر قرار تعيينه.. عمليا يقوم رئيس الحكومة باختيار المحافظين ويضع بعد ذلك اختياراته أمام رئيس الجمهورية الذى يوافق ويعترض.. وقد جرى العرف منذ فترة طويلة جدا أن يتم اختيار المحافظين إما من ضباط القوات المسلحة والشرطة المتقاعدين وإما من أساتذة الجامعات.. أحيانًا.. ولا أظن أن عملية اختيار المحافظين الجدد هذه المرة قد خرجت عن هذا الأسلوب.. الحكومة اختارت أو رئيسها.. والمجلس العسكرى ممثلا لرئيس الجمهورية اعتمد الاختيار.. بنفس القاعدة السابقة تقريبا.. إما ضابط متقاعد وإما أستاذ جامعة.. أحيانًا!.. ليس هناك شك أن انتخاب المحافظ أصبح ضرورة ملحة تفرض نفسها على المجتمع المصرى.. الانتخاب هو الحل الوحيد الذى يمكن معه تجنب أى أزمة من هذا النوع.. لكن حكومة الدكتور عصام شرف كانت غير قادرة على هذا الحل.. أولا لأن الانتخابات فى مثل الظروف الحالية تحتاج إلى ترتيبات أمنية لن تقدر عليها الحكومة.. ثم إن تحويل عملية اختيار المحافظ من تعيين إلى انتخاب تقتضى تغيير الدستور أو على الأقل تغيير قانون الإدارة المحلية وهو ماليس فى إمكان حكومة شرف الانتقالية.. وهكذا لم يكن ممكنا اختيار المحافظ الجديد لقنا إلا بنفس الأسلوب القديم.. الحكومة ترشح ورئيس الجمهورية يوافق ويعين.. هل كان اختيار الحكومة محافظا مسيحيا لقنا خطأ من جانبها؟! كان فى إمكان الحكومة أن تكسر القاعدة التى أتبعت خلال السنوات الماضية والتى اقتضت - إثباتا لحسن نوايا النظام تجاه المسيحيين فى مصر - اختيار محافظ مسيحى لقنا.. كان فى إمكان الحكومة أن تختار محافظاً مسيحياً لأى محافظة أخرى وتختار محافظا مسلما لقنا.. هذه المرة على الأقل.. فقد كان من أسباب غضب أبناء قنا هو الإصرار على اختيار محافظ مسيحى. مسيحى أو مسلم مسألة لا تعنينى شخصيا وأتصور أنه من الخطأ أساسا مناقشتها.. لكن هذه مسألة.. وقراءة نبض الجماهير واستطلاعات الرأى مسألة أخرى.. وهكذا فإن الحكومة من وجهة نظرى أخطأت فى هذا الجانب فلم تقرأ المشكلة فى قنا قبل ظهورها.. ولكنها أخطأت أكثر وهى تحاول الحل!.. اعتمدت الحكومة على تيارات إسلامية اشعلت الفتنة وتركت لها قيادة الأزمة.. ثم اكتشفت الحكومة أنها حكومة فأظهرت العين الحمراء لكنها أخطأت لأنها لم تستخدمها.. العين الحمراء!.. ليس ذلك تحريضا لكن ما دامت الحكومة قد اختارت ذلك فكان عليها أن تمضى فى طريقها لأنها فى النهاية مسئولة عن هيبة الدولة.. وحتى الحل الذى لجأت إليه الحكومة أعتقد أنه لا يخلو من الخطأ.. تجميد نشاط المحافظ ثلاثة شهور.. هل هو مجرد حفظ لماء وجه الحكومة ومحاولة يائسة للحفاظ على هيبة الدولة؟!.. وهل سيعود المحافظ إلى ممارسة نشاطه بعد انقضاء «عدة» الثلاثة شهور؟!.. الحكومة تعرف أن المظاهرات والاعتصامات ستعود أقوى وأكثر إذا حدث ذلك.. هل تحول الحكومة قرار تجميد النشاط إلى قرار استبعاد بعد نهاية الشهور الثلاثة؟!.. إن كان ذلك صحيحا فلماذا لم تصدر قرار الاستبعاد الآن فتريح وتستريح؟!.. وهل تأجيل قرار الاستبعاد يساعد فى الحفاظ على هيبة الدولة أم أن الحكومة تضحك على نفسها وهى تتصور أنها هى التى تضحك على الناس؟! مسئولية الحكومة فى كل الأحوال حفظ هيبة الدولة والمجلس العسكرى لابد أن يساعد الحكومة فى هذه المهمة الصعبة.. وعليه أن يفرق تماما بين مظاهرات سلمية تعبر عن وجهة نظر ومظاهرات تخرج على القانون وتضر بالبلاد واقتصاد البلاد.. المسألة فى منتهى الخطورة والأهمية.. لأن هيبة الدولة إذا سقطت.. سقطت الدولة.. وليست مظاهر البلطجة وترويع الآمنين إلا مظهرًا لهذا السقوط!.. فلا بد أن تضع الحكومة ومعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة هيبة الدولة فوق أى اعتبار.. وقبل أى اعتبار. *** فارق كبير بين الثورة والفوضى.. فارق كبير بين الذين يطالبون بالتعبير عن رأيهم والذين يريدون فرض رأيهم بالقوة حتى لو كان ذلك مخالفا للقانون.. فارق كبير بين دولة لها هيبتها ودولة تفتقر للهيبة.. وقد حان الوقت لاستردادها.. اليوم وليس غدا.. وأظن أن الثورة طالبت بإسقاط النظام.. لكنها أبدا لم تطالب بإسقاط الدولة!..