أصبح يتعين أن نتوقف لحظة نراجع فيها ما فات ونتأمل ما هو آت.. لحظة التوقف التى أطالب بها أصبحت ضرورية الآن.. ربما أكثر من أى وقت مضى.. وذلك لكى نعرف بالضبط إلى أين تسير مصر.. أو إلى أين نسير بمصر؟! الثورة قامت يوم 25 يناير الماضى ومعنى ذلك أنه بحساب الزمن يكون قد مر على قيامها، وعلى سقوط النظام السابق أكثر من شهرين.. وهى فترة كافية لكى نحكم من خلالها على الأمور.. كيف تسير وإلى أين؟.. المكاسب التى تحققت والخسائر التى وقعت.. المطالب التى نفذت والمطالب التى لم تنفذ.. فإذا وضعنا فى الاعتبار أن المعادلة الرئيسية فى كل ما يتعلق بهذه الفترة الدقيقة والحرجة من تاريخ مصر.. كانت هى طبيعة العلاقة بين الجيش والشعب.. فإننا نستطيع من خلال رصد هذه العلاقة أن نجد إجابات صحيحة ودقيقة لكل التساؤلات التى تفرضها اللحظة الراهنة.. إلى أين تسير مصر.. أو إلى أين نسير بمصر؟!.. ولابد من الاعتراف بأن الطرفين توافقا منذ البداية على أنهما - يد واحدة - لكن لابد من الاعتراف أيضاً بأن هذه اليد الواحدة أصبحت تحوطها بعض الشكوك والظنون!.. استمعت إلى اثنين من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتحدثان فى برنامج تليفزيونى.. اللواء محمد العصار واللواء طارق المهدى.. الحديث فى جزء منه تعرض لعلاقة الجيش بالشعب.. وقد راح الاثنان - عضوا المجلس الأعلى للقوات المسلحة- يركزان على ضرورة وأهمية أن يثق الشعب بالجيش.. هل معنى ذلك أن الثقة التى يوليها الشعب للجيش قد بدأت تشوبها الشوائب؟!.. فى الآونة الأخيرة ارتفعت أصوات تتحدث عن هذه الثقة.. بعضها بالتلميح وبعضها بالتصريح.. بعضها يعاتب ويطالب وبعضها ينتقد ويتشكك!.. هل يمكن أن يكون السبب هو انطباع الناس - خاصة من الشباب - أن الجيش يتباطأ فى تنفيذ المطالب ويتباطأ فى محاسبة الفساد؟.. هل هو الخوف من ضياع أهداف الثورة ومكاسبها؟.. يمكن.. لكن ذلك لا ينفى أن هناك من يحرض ويلعب أدواراً من وراء ستار!.. قرأت مقالا لكاتب مصرى قبل أكثر من أسبوعين فى جريدة عربية تصدر من لندن يتحدث فيه وكأن الجيش هو العدو الحقيقى للثورة!.. يقول الكاتب فى جزء من مقاله إن الجيش يعتمد سياسة ممنهجة تتلخص فى تغاضيه عن المظاهرات الكبيرة أما المظاهرات الصغيرة المحدودة فيستفرد بها ويتعامل معها بمنتهى القسوة والعنف.. وأنه يقوم باعتقال أعداد غير قليلة من المتظاهرين سواء من الشباب أو الفتيات.. وأن هؤلاء المعتقلين يتعرضون لإهانات جسيمة تصل إلى حلق شعر الشباب وتعذيبهم، والكشف عن عذرية الفتيات عن طريق جنود يرتدون ملابس الأطباء (!!!).. وأكثر من ذلك!.. يقول الكاتب صراحة إن العدو الحقيقى للثورة هو الجيش المصرى الذى يحمى النظام القديم (!!!).. هل يكون هذا التحريض جزءاً من الثورة المضادة التى تحاول أن تتصدى لثورة 25 يناير؟!.. هل هناك من يسعى إلى وقوع صدام بين الجيش والشعب؟!.. وهل يمكن اعتبار الجيش فى كل الأحوال.. عدو الثورة؟!.. *** اتمنى ألا يأخذ القارئ انطباعاً بأننى أدافع عن الجيش.. ليس لأن الدفاع عن الجيش خطأ أو جريمة.. وإنما لأننى أدافع بالدرجة الأولى عن العقل والمنطق والحقائق.. وأتصور أن تجاوزها فى هذه الفترة الدقيقة والحرجة سيؤدى إلى مالا يحمد عقباه.. وأبدأ بتذكير القارئ بموقف الجيش من الثورة الذى يمكن أن يساعدنا كثيرا.. فأظننا نذكر أن البيان رقم واحد الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. والذى أعلن قبل أن يعلن الرئيس السابق مبارك عن نقل سلطاته كرئيس للجمهورية إلى نائبه عمر سليمان.. أظننا نذكر أن هذا البيان تحدث صراحة عن المطالب المشروعة للشعب.. وهو ما يعنى أنه اختار منذ البداية الانحياز للشعب.. وليس سرا بعد ذلك أن الجيش تلقى أوامر صريحة وقاطعة بالتعامل مع مظاهرات الثورة فى ميدان التحرير وفضها بالقوة المسلحة.. لكنه رفض هذه الأوامر وقام بحماية هذه المظاهرات بدلاً من أن يتصدى لها بالقوة.. ولابد أن نسأل أنفسنا: ماذا لو أن الجيش نفّذ الأوامر الصادرة له؟!.. لابد أن نضع فى الاعتبار أن الوضع فى مصر يختلف كل الاختلاف عن الوضع فى ليبيا.. وأن الجيش المصرى لا يقارن بالجيش الليبى.. والمعنى أن الجيش فى مصر كان يستطيع أن يتعامل مع مظاهرات الثورة بأسلوب يتناسب مع كفاءته وقوته الحقيقية.. لكنه كما ذكرت إنحاز من اللحظة الأولى للثورة والشعب والمطالب المشروعة.. واختار أن تكون مهمته حماية الثورة وليس قمعها.. ثم إن الجيش لعب دوراً فى منتهى الفاعلية لحماية المصريين فى أعقاب الغياب الأمنى للشرطة واستطاع أن يتصدى للذين حاولوا ترويع المصريين وتهديد أمنهم وأمانهم.. القوات المسلحة قدمت فى الحقيقة نموذجا مشرفا لا يستطيع أى منصف أن يتجاهله فى تعاملها مع الشعب خلال الأيام التى أعقبت سقوط النظام القديم.. تشهد على ذلك المظاهرات الفئوية التى اندلعت فى كل مكان.. وأحداث كنيسة أطفيح وغيرها.. ثم إن القوات المسلحة لعبت دوراً بارزاً فى القبض على أعداد كبيرة من المساجين الهاربين من سجونهم أو الذين تم تهريبهم بفعل فاعل.. وتصدت القوات المسلحة لتحديد خريطة مستقبل مصر فقامت بتكليف لجنة لعمل التعديلات الدستورية وأجرت الاستفتاء عليها وتحملت عبء تأمين الاستفتاء.. والأهم أنها ماضية فى تنفيذ وعدها بتسليم السلطة لرئيس منتخب فى أسرع وقت ممكن.. المفارقة أن أصواتا كثيرة تطالب الجيش بالاستمرار فى حكم البلاد حتى تكون - من وجهة نظرهم - مؤهلة لاختيار مجالس نيابية محترمة وانتخاب رئيس شرعى.. وقد طالبت هذه الأصوات الكثيرة بأن يتم إعداد دستور جديد خلال الفترة التى يتولى فيها الجيش الحكم.. والتى يطالبون بأن تستمر لعامين على الأقل!.. لكن الجيش يرفض رفضا قاطعا هذا الإغراء ويتمسك بوعده.. تسليم السلطة لرئيس شرعى منتخب فى أسرع وقت ممكن.. هل يمكن أن يكون هذا الجيش عدوا للثورة؟!.. هل يمكن أن يكون هذا الجيش عدوا للشعب؟!.. مرة أخرى ليس هدفى الدفاع عن الجيش وإنما عن العقل والمنطق والحقيقة.. لأن تجاوزها فى هذا التوقيت سيؤدى كما قلت إلى مالا يحمد عقباه!.. والذى لا يحمد عقباه لا تستطيع مصر تحمله!.. *** ليس على خريطة الاحتمالات وقوع أى صدامات دموية بين الجيش والشعب.. الجيش أكد ذلك ولا يزال يؤكده.. ولم يحدث فى تاريخ مصر - الحديث على الأقل - أن لعب الجيش المصرى أى دور دموى ضد الشعب.. لكننى أتحدث عن الفوضى المدمرة التى يمكن أن تسود البلاد فيما لو تصاعدت الخلافات بين الجيش والشعب.. الوضع الاقتصادى - بكل المقاييس - لم يعد يتحمل مزيداً من الخسائر والفوضى.. أكثر الأرقام فزعا تتحدث عن أننا خسرنا 6 مليارات دولار من الاحتياطى النقدى خلال فترة الشهرين الماضيين.. فإذا عرفنا أن كل احتياطى مصر من النقد الأجنبى لا يتجاوز 30 مليار دولار فنحن أمام مشكلة اقتصادية حقيقية يمكن أن تكون آثارها مدمرة على البلاد.. المشكلة الأخرى هى تناقص الموارد بشكل مفزع.. من السياحة والتصدير وغيرهما.. وهناك أماكن كثيرة معطلة لا تعمل.. أماكن إنتاجية كان الاقتصاد المصرى يعتمد عليها اعتماداً كبيراً.. المشكلة الكبرى أن حجم آمال وتطلعات الناس فيما بعد الثورة كبير جداً وهو ما يحتاج لبرامج اقتصادية طموحة توفر فرص عمل للعاطلين وتبنى مساكن للشباب وغيرهم وتزيد معدلات النمو.. لكن كيف تتحقق هذه البرامج الاقتصادية الطموحة وعجلة الإنتاج لا تتحرك؟!.. المفارقة أننا أمام طريقين.. إما خسارة هائلة وإما مكاسب هائلة.. الخسارة الهائلة لأن عجلة الإنتاج المصرية معطلة.. والمكاسب الهائلة يمكن تحقيقها اعتمادا على قوة الاقتصاد المصرى التى استطاعت أن تتجاوز من قبل أزمات عالمية خطيرة.. منها على سبيل المثال الأزمة العالمية التى فرضت نفسها ضيفا ثقيلا على كل بلاد العالم فى عام 2008.. لكننا رغم ذلك استطعنا تحقيق معدل نمو وصل إلى 4.23%.. ليس ذلك دفاعا عن حكومة نظيف أو نظام سابق لأن الاعتراف بأن اقتصادنا كان قويا لا ينفى أن الفساد كان أقوى.. وأن عائد هذا الاقتصاد القوى كان يذهب بعيدا عن معظم فئات الشعب.. لكننى أقول إننا نملك بنية اقتصادية قوية يمكن أن نستعيد معها عافية الاقتصاد المصرى بسرعة.. خاصة أن دولا كبرى كثيرة أبدت استعدادها لمساعدتنا بشرط تحقيق الاستقرار.. فإذا لم نستخدم هذه البنية الاقتصادية القوية.. وإذا لم نستثمر رغبة الدول الكبرى القوية لدعمنا ومساعدتنا فإننا نضيع فرصة هائلة للاستفادة من مكاسب الثورة.. *** كان الشعب هو الذى رفع شعار «الجيش والشعب يد واحدة».. وكان الجيش هو الذى حول هذا الشعار إلى واقع.. وعلينا جميعا أن نحتكم للعقل والمنطق لكى تظل هذه اليد.. واحدة!..