يُحكى عن مجموعة من الناس فتحوا أعينهم على الحياة ليجدوا أنفسهم يسكنون مكانا يضم غرفا صغيرة حقيرة، ولا يُسمح لأى منهم أن يخرج منها إلا فى أوقات معينة تقررها «الإدارة». كان سكان هذا المكان يلتقون معا مصادفة فى الساحة الواسعة التى ينقصها الكثير من النظافة، وتنعدم فيها أية لمسة من الجمال، وكان عدد من صغار «المسئولين» يأتون فى مواعيد معينة، ويرمون إليهم ببعض الطعام القليل للغاية حتى أنهم كانوا يتصارعون على أرغفة الخبز، يريد كل منهم أن يظفر بلقمة أكبر فى كل رغيف جديد. كان هؤلاء السكان ينظرون من خلال نوافذ المكان ويشاهدون أناسا يسيرون فى طرق كثيرة، يضحكون ويمرحون، فيتساءلون فى أنفسهم:«لماذا لا نستطيع نحن أيضا أن نذهب خارج هذا المكان ونسير ونضحك مثل هؤلاء؟ ما الذى أتى بنا لهذا المكان أصلا؟ لكنهم كانوا يُفاجأون بأن حراس المكان يتتبعون كل فكرة تخطر على بالهم، ويعتبرونها جريمة يعاقبونهم عليها. كان الحراس يقولون لهم:«نحن نمنحكم غذاءكم اليومى.. ونعطيكم سكنا مجانيا.. ونحميكم من المخاطر التى فى الخارج.. وأنتم تتطلعون للخروج من هنا.. يا لكم من جاحدين». من أين يأتى الفكر؟ وفى يوم ما.. وفيما يشبه المعجزة.. خطر على بال هؤلاء جميعا.. وفى نفس التوقيت.. فكرة مشتركة.. مفادها:«تحررنا من أغلال هذا المكان أمر ممكن!» أدرك هؤلاء الناس فى تلك اللحظة السحرية أن هذا المكان الذى نشأوا فيه اسمه «سجن»، وليس مكانا عاديا من الأماكن التى يسكنها غالبية البشر العاديين، وأدركوا أيضا أن «الإدارة» ما هم إلا «السجانون». لم يكونوا حتى يعرفون ما الذى سيحدث فى اللحظة التالية.. كان كل ما يدركونه هو أن بإمكانهم أن يقولوا «نريد حريتنا». وإذا بهم وهم يرددون تلك العبارة البسيطة بحماسة وصدق يجدون مجموعات ومجموعات من البشر الذين يعيشون فى هذا المكان ينضمون إليهم، ويرددون معهم عبارة «نريد حريتنا»، لتسرى فيهم جميعا قوة وثقة فى أنفسهم لم يعهدوها من قبل، وما كانوا ليصدقوا أنها ستتواجد، وقد ظلوا سنوات الصبا وفجر الشباب يُقال لهم إن «حياتهم» فى «السجن» على أجمل ما يكون وأجمل ما يكون!! فكر .. إرادة .. سلوك بتلك القوة حطموا أبواب الزنازين، واحتشدوا فى منطقة فسيحة وسط «السجن».. يرددون معا «نريد حريتنا».. وتلك كانت.. أيضا.. معجزة! فهم على مدى عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة هى أعمارهم المتفاوتة لم يشعروا أن بينهم ذلك الحب.. القرب.. الشوق لشىء واحد: «الحرية». وما عادت الساحة الفسيحة جزءا من السجن.. إنها الآن بيتهم.. إليه ينتمون.. ومعا يعيشون. حين حدثت تلك المعجزة وجدوا سلوكهم يتغير بما يشبه ميلاد معجزات أخرى متتالية، فبدلا من الصراع على رغيف الخبز بدأوا يتقاسمونه بكل محبة، وأخذوا ينظفون المكان حولهم ليصبح جميلا، صاروا يشعرون بنسمات الهواء وقد صار لها عبير جديد ينعش أرواحهم، وكأن حياة جديدة صارت تجرى فى عروقهم لم يكونوا يعرفونها من قبل..لأول مرة يوقنون أن هوية كل منهم هى أنه «إنسان». الطريق للحرية ليس مفروشا بالورود بعد فترة من الصمت والتجاهل من «إدراة السجن»، أتى إليهم أحدهم ليقول لهم: «اهدءوا.. نحن سنغير إدارة السجن.. أليس هذا عظيما؟ الآن ارجعوا إلى الزنازين فورا. أجاب المحتشدون فى الساحة الواسعة:«كلا.. نحن نريد حريتنا.. نريدها فورا». فى تلك اللحظات جاء بعض من يسكنون المكان ولكن لم ينضموا لطالبى الحرية، وقالوا للمحتشدين:«تنبهوا يا إخوتى.. إن كلماتكم تغضب الإدارة.. سيحرمونكم من الطعام. كفوا عن التمرد.. ألم يقولوا لكم إنهم سيغيرون الإدراة؟! وأن الأمور ستنصلح؟!» قال المحتشدون: «ولكن لماذا لا نُعطى حريتنا؟ نحن نريد حريتنا الآن». وإذا بقيادات الإدراة تقول للمحتشدين من جديد: «أليس بقلوبكم رحمة! ستتسببون فى حرمان إخوتكم فى السجن من لقمة العيش! قال المحتشدون: «إذا كنتم حقا تهتمون بأخوتنا فلماذا تحرمونهم من الطعام لتخرسوا ألسنتنا؟ أعطوهم طعامهم واتركونا نطالب بحريتنا، ونحن سنوفر لأنفسنا لقمة الطعام». شعرت إدراة السجن بالضغط الشديد فقالت:«نحن نقر بحقكم فى الحرية، وكنا سنفعل ذلك فعلا فى كل الأحوال، ولكن ليس الآن.. بعد عدة شهور.. فهلا توقفتم عن هذا الإزعاج فورا؟» هنا قامت مناقشة بين المتظاهرين من الداخل عما إذا كان يحق لهم تصديق قول الإدارة أم لا. وبينما هم يتناقشون أمرهم، إذا بهم يجدون عددا من زبانية إدارة السجن يتسارعون إليهم وفى أيديهم العصى يضربونهم بوحشية، وهم لا يملكون أية وسيلة يدافعون بها عن أنفسهم. استبسل مطالبو الحرية فى دفع المعتدين بعيدا، ونجحوا فى ذلك لكن عددا منهم لقى حتفه مستشهدا. فى اليوم التالى جاء مسئول من الإدارة وقال للمحتشدين:«نحن نعتذر لكم يا أخوة.. نحن لا نعرف من أين جاء هؤلاء المشاغبون، وأنتم تعرفون بالتأكيد أننا فى صفكم، وأننا نريد لكم حياة طيبة داخل السجن، وأننا سنطلق سراحكم بعد عدة أشهر، ألا تصدقون أن هذه هى نيتنا بالفعل؟ لا تكونوا طماعين.. نحن نعدكم بأن أحوال السجن ستتحسن من الآن». فى تلك اللحظات ازدادت الأمور اختلاطا، فبعض السجناء المستسلمين للإدارة، وقليل من المحتشدين، اعتقدوا أن عليهم أن ينتظروا حتى تفى ادارة السجن بوعودها. بينما رأى آخرون أن الإدارة تخدعهم، وأن عليهم أن يستمروا فى احتشادهم وطلب حريتهم فورا. حلول حقيقية.. أم تنازلات عن الحرية؟ حاول بعض الناس من خارج السجن أن يتوسطوا بين السجناء وبين إدراة السجن. وقال هؤلاء إنهم محايدون، وسيتصلون بالإدارة لتحقيق مطالب السجناء بإعطائهم حريتهم، وبعد مقابلات متعددة، خرج هؤلاء «المحايدون» يقولون للسجناء: إن جميعنا بما فينا الإدارة متفقون على أن نعطيكم حريتكم، ولكن لا نستطيع أن ننفذ هذا فى الوقت الحالى، فالأمر ليس بالبساطة التى تتصورونها، فليس هناك فى قوانين السجن ما يقول إن لكم الحق فى الحصول على حريتكم، ولكننا سنعدل تلك القوانين لتعطيكم هذا الحق، والآن استمعوا لصوت العقل. ونحن نصارحكم القول بأن مطالبكم هذه ليست مطالب جميع السجناء، فأنتم لا تمثلون إلا أنفسكم. قال المحتشدون: ولكن من الذى اختار أصلا أن نكون سجناء؟! ومن الذى كتب هذا القانون الذى يحرمنا من حريتنا دون أن نفعل أية جريمة؟ وإذا كنتم صادقين فى أن الحرية حق لنا فعلا فلماذا لا تعطوننا إياها الآن؟» جاء ممثل من مجموعة «المحايدين» يقول للمحتشدين: انتبهوا لى يا سادة.. إن لديكم مشكلة كبيرة، فأنتم ليس لديكم ممثل يتحدث عنكم». قالوا معا: إن مطلبنا كله هو الحرية. قال لهم: إن أفكاركم ليست واضحة لنا تماما. نحن نقر بحقكم فى الحرية. ولكن كيف ستعيشون بدوننا؟ من الذى سيحكمكم؟ وكيف نعرف أنكم حقا مجموعة واحدة؟ لماذا لا تتركوننا ندبر شأن حريتكم هذه وشأن معيشتكم فى السجن وتنصرفون إلى زنازينكم، وإذا لم يعجبكم ما سنفعله، تأتون مرة أخرى للساحة الواسعة التى تحتشدون فيها؟ لقد ظل هؤلاء «المحايدون» مثلهم مثل إدارة السجن يساومون المحتشدين على أمور من حياتهم، كلها تدور حول «الحياة داخل السجن»، ولم ينتبهوا إلى أن المحتشدين يريدون مطلبا أساسيا واحدا هو «الخروج من السجن»، أى ما يريدونه هو الحرية وليس «ترتيب الأوضاع داخل السجن»! صار الموقف كما يلى: إدارة السجن تماطل وتماطل بحيل متنوعة فهى لا تريد أن تترك قبضتها عن السجناء وتطلق سراحهم. السجناء الذين لا يهتمون إلا بلقمة الخبز لا يستطيعون التفكير فى أكثر من أن يضمنوا وصولها إليهم بانتظام ودون تهديد ما، فهم لا يريدون إلا ما يسمونه «الاستقرار» حتى لو كان داخل السجن. المطالبون بحريتهم لم ولن يستسلموا، لا لأنهم يركبهم العند أو لأنهم يشطح بهم خيالهم إلى المستحيل، ولكن لأن نسيم الحرية المنعش الذى تنسموه قد غيرهم إلى الأبد. هذه قصة كتبها شاب من المشاركين فى ثورة 25 يناير عبّر فيها عن رؤيته لما حدث.. ولا يزال يحدث.. فلم تنته القصة بعد. هل صار مفهوما أن «الحرية» بكافة معانيها ومستوياتها هى المطلب الوحيد الذى إن تحقق سيتحول المكان من «سجن» إلى «مجتمع» من البشر.. يتحابون.. ويتعاونون فى بنائه بسلام .. أم مازال البعض يعتقد أن القضية هى «إصلاح الحياة شيئا ما داخل السجن؟»