قبل ساعات قليلة من صدور البيان رقم واحد الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. وقبل أن يعلن الرئيس مبارك عن نقل سلطاته كرئيس للجمهورية لنائبه عمر سليمان.. كان من الصعب إن لم يكن مستحيلا التنبؤ بمسار الأحداث وما يمكن أن تصل إليه.. وعلى الرغم من أن الحقائق المتعلقة بالأزمة قد كشفت عن نفسها بشكل واضح فإن هذه الحقائق كانت تتغير وتتسارع بشكل كبير وأحياناً تتناقض وتتصارع ومن ثم لم يكن مجديا الاعتماد عليها فى التنبؤ بسيناريو الخروج من الأزمة. كان السؤال الملح الذى يفرض نفسه بقوة وإلحاح هو: كيف تنتهى الأزمة؟.. كيف نخرج من هذا النفق المظلم؟!.. كيف تنجو مصر؟!.. وكانت الإجابة رغم الحقائق المتكشفة ضبابية وغير واضحة ثم توالت البيانات والكلمات.. فبدأت ملامح سيناريو النهاية تتضح.. البيان الأول للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ومن بعده خطاب الرئيس الذى أعلن خلاله نقل صلاحياته إلى نائبه ثم كلمة النائب عمر سليمان بعد انتقال صلاحيات الرئيس له.. كل ذلك ليس له إلا معنى واحد: تلبية كل مطالب الشعب مع الحرص على تحقيق انتقال سلمى للسلطة.. بيانالمجلس الأعلى للقوات المسلحة فى الحقيقة تضمن رسالة فى منتهى الأهمية وهى أن القوات المسلحة المصرية جادة كل الجدية فى الحفاظ على أمن وسلامة البلاد.. وأنها لن تسمح تحت أى ظرف بالمساس بأمن مصر القومى.. قبل أن يلقى الرئيس مبارك خطابه الذى أعلن خلاله نقل صلاحياته إلى نائبه.. انطلقت التكهنات وتشابكت التحليلات تحاول فهم الرسالة التى يتضمنها البيان الأول للمجلس الأعلى للقوات المسلحة.. كان الانطباع الذى سيطر على عقول كل الذين حاولوا تفسير معنى البيان وفهم رسالته أن القوات المسلحة على وشك الاستيلاء على الحكم وفرض الأحكام العرفية.. لكن هذا المفهوم تغير بعد خطاب الرئيس.. وهكذا فسّر البيان رقم واحد نفسه واتضحت كل الرسائل التى تضمنته.. وأولها أن القوات المسلحة حريصة على أن يتم نقل السلطة سلميا.. وأن نقل صلاحيات الرئيس لنائبه هى المخرج الوحيد لنقل السلطة سلميا.. ثم إن البيان اعتبر نقل سلطة الرئيس لنائبه تلبية لمطالب الشعب المشروعة.. بالإضافة إلى تأكيد جدية القوات المسلحة فى الحفاظ على أمن وسلامة البلاد والمواطنين.. وعندما ألقى الرئيس مبارك خطابه كان أهم ما تضمنه الخطاب هو الإعلان عن إحالة 6 مواد من مواد الدستور إلى مجلس الشعب لتعديلها.. خمس مواد للتعديل هى المواد رقم 76، 77، 88، 93، 189 وإلغاء المادة رقم 179 الخاصة بحالة الطوارئ.. تعديل المواد التى طلب الرئيس من مجلس الشعب تعديلها يفتح الباب لتيسير عملية الترشيح لمنصب الرئيس وتقييد مدة وجوده فى منصبه وتعيد للقضاء إشرافه الكامل على الانتخابات.. وقد حرص الرئيس على أن يبدأ خطابه بالإعلان عن إحالة هذه المواد لمجلس الشعب ثم أعقب ذلك بالإعلان عن نقل صلاحياته لنائبه.. وكان لذلك الترتيب مغزى ومعنى.. *** لو أن الرئيس أعلن فقط عن نقل صلاحياته لنائبه وتنازله عن هذه الصلاحيات فإن النائب عمر سليمان فى هذه الحالة سيجد نفسه طبقا لمواد الدستور عاجزاً عن تعديل الدستور، وهو ما طالب به الشعب وطالبت به ثورة 25 يناير.. ولهذا السبب حرص الرئيس على أن يبدأ خطابه بإحالة 6 مواد لمجلس الشعب.. كأنه يقول إنه يستخدم صلاحياته كرئيس لآخر مرة فى طلب تعديل الدستور ثم يتنازل عن هذه الصلاحيات بعد ذلك لكى لا يقف نائبه عاجزا عن تعديل الدستور ومن ثم إجراء انتخابات رئاسية تسمح بانتقال سلمى للسلطة.. هل هناك معنى بعد ذلك لاستمرار مطالبة المتظاهرين برحيل الرئيس مبارك؟.. هل يعنى الرحيل أن يترك مصر ويغادرها؟!.. هل هذا هو مضمون مطالب الشعب؟.. الرئيس مبارك بالفعل رحل عن السلطة بتنازله عن صلاحياته ومن ثم لم يعد هناك معنى لاستمرار المطالبة برحيله.. فإذا استمرت المظاهرات فى المطالبة برحيله فمعنى ذلك إما سوء فهم لمضمون الخطاب وإما أن هناك إصراراً على الفوضى.. ليس هناك احتمال ثالث!.. وقد تكون الصيغة التى كتب بها خطاب الرئيس والمقدمة الطويلة له مسئولة إلى حد ما عن سوء فهم المتظاهرين والشباب لمضمونه الحقيقى وهو رحيل الرئيس مبارك بالفعل عن السلطة.. لكن ذلك لا يمنع من أن هناك من يعمل على بقاء سوء الفهم والتحريض على الفوضى.. وهؤلاء هدفهم ليس إسقاط النظام وإنما إسقاط مصر!.. وعندما ألقى نائب الرئيس خطابه بعد انتقال صلاحيات الرئيس له فإنه حرص على أن يبعث برسالة واضحة.. رسالة تقول إنه ملتزم خلال الفترة القادمة وحتى تنتهى رسميا ولاية الرئيس مبارك بتهيئة الأجواء لانتقال سلمى للسلطة.. وأنه لا يرى معنى لاستمرار التظاهرات بعد أن تمت تلبية كل مطالب الشعب ولذلك طالب المتظاهرين بالعودة لمنازلهم واستئناف أعمالهم حرصا على تحقيق الأمن والاستقرار.. وفى كل الأحوال فإن استمرار الوضع الحالى يهدد بالفعل بسقوط مصر!.. *** تطورت المظاهرات الشبابية التى اندلعت يوم 25 يناير بشكل ملحوظ.. سواء من حيث الشكل أو المضمون. المظاهرات فى البداية كانت تطالب برحيل الرئيس مبارك عن السلطة ثم راحت بعد ذلك وخاصة بعد سقوط شهداء فى ميدان التحرير تطالب بمحاكمة الرئيس.. ثم طالبت بإعدامه!.. لم تصغ هذه المظاهرات لصوت الإجراءات التى اتخذت بالفعل.. لم تصغ لوعود الرئيس بعدم ترشحه مرة أخرى للرئاسة وعدم ترشح نجله جمال مبارك.. لم تصغ لعملية تعديل الدستور وتصحيح وضع مجلس الشعب والإجراءات الخاصة بالتحقيق فى وقائع الفساد. كل الذى ركزت عليه المظاهرات هو رحيل الرئيس مبارك ومحاكمته.. والمطالبة بحل مجلس الشعب.. مع أن حل مجلس الشعب يقود إلى مزيد من الفوضى.. حل مجلس الشعب لابد وأن يتبعه الإعلان عن إجراء انتخابات نيابية جديدة تتم بأقصى سرعة والسؤال: هل يمكن عمليا بعد الخسارة الفادحة التى مُنِىَ بها جهاز الشرطة أن يؤمن إجراء انتخابات نزيهة لمجلس شعب جديد؟!.. المهم أن سقف مطالبات المتظاهرين راح يعلو يوما بعد يوم لدرجة أن المتظاهرين راحوا يطالبون باسم الديمقراطية بإلغاء الحزب الوطنى ومنع أعضائه من أى نشاط سياسى لمدة خمس سنوات!.. ثم حدث تطور آخر فى منتهى الخطورة فقد اندلعت مظاهرات كثيرة فى أماكن كثيرة فى عدد غير قليل من محافظات مصر.. لم ترفع هذه المظاهرات شعارات سياسية ولم تطالب برحيل الرئيس لكنها راحت تطالب بمساكن ووظائف وتعديل مرتبات ومكاسب مادية.. ثم أن بعض هذه المظاهرات لجأت للعنف وإحراق المنشآت الحكومية.. مطالب هؤلاء مشروعة لكن هناك استحالة فى تحقيقها مرة واحدة.. وكيف تستطيع الحكومة الحالية إصلاح كل ما أفسدته الحكومات السابقة.. فى أيام؟! كيف تخلق فرص عمل للملايين وتجد لهم المسكن؟.. كيف تحقق كل ما يطلبونه من زيادات فى مرتباتهم والكثير من المزايا المادية التى يطالبون بها.. فى وقت واحد؟!.. ويقودنا ذلك كله إلى نتيجة واحدة.. عصيان مدنى يهدد بسقوط.. ليس فقط النظام وإنما سقوط مصر كلها وغرقها فى بحور الفوضى.. وهو ما أعلنت القوات المسلحة أنها لن تسمح به!.. *** سيناريو الخروج من الأزمة أصبح واضحا.. إما انتقال سلمى للسلطة بالطريقة الصحيحة التى تقتضى أن يضع الجميع مصر قبل أى اعتبار ويتمسكوا بأن تكون فوق الجميع.. وإما فوضى وعصيان مدنى يسقط مصر وهو ما لن تسمح به القوات المسلحة.. وفى هذه الحالة ستضطر إلى التدخل وفرض الأحكام العرفية.. إما استقرار وهدوء وأمان.. وإما حكم عسكرى تضيع معه كل مكاسب الثورة.. الخيار لنا!..