استبشرنا جميعاً خيراً بتولى فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الطيب إمامة الجامع الأزهر الشريف.. فإذا كان هذا تشريفاً وتكريماً وتقديراً لمكانة «الطيب» انطلاقاً من المكانة الرفيعة التى يحظى بها الأزهر على مستوى العالم الإسلامى والعالم بأسره.. فإن العالم الجليل يمثل إضافة قوية لهذا المنصب لما يحظى به من علم وفكر ورؤية ثاقبة وقدرات ممتازة على إدارة الجامع والجامعة العملاقة التى أخرجت للأمة أعلاماً أفذاذاً فى كل المجالات.. وليس فى العلوم الإسلامية وحدها. وعندما ندقق فى حركة الإمام الأكبر وخطواته ورؤيته الاستراتيجية نلاحظ أنه قد أعاد للأزهر الكثير من هيبته وبريقه ومكانته السامية - وصحيح أن هذه المكانة لم تختف ولكنها تراجعت قليلاً لأسباب كثيرة ليس هذا هو مجال الحديث عنها. وهنا يجب أن نستعرض بعضاً من هذه المواقف والخطوات والمبادرات التى قام بها الطيب.. ومن بينها الموقف من تدخل الفاتيكان فى شئون الإسلام عامة.. وفى الشئون الداخلية المصرية خاصة.. على خلفية تفجير الإسكندرية الإرهابى المرفوض من جميع المصريين.. قبل بابا الفاتيكان نفسه. وقد جاء قرار الأزهر بتجميد الحوار مع الفاتيكان ليضع النقاط على الحروف وليؤكد مكانة الأزهر ورغبته فى أن يتم هذا الحوار على أساس من الاحترام المتبادل. وعندما يتجاوز بابا الفاتيكان الحدود ويطالب بحماية مسيحى الشرق.. بشكل عام.. والأقباط المصريين.. بشكل خاص.. فإنه يناقض نفسه ويلوى عنق الحقيقة التى يعرفها الجميع.. ألا وهى أننا جميعاً مصريون نعيش فى وطن واحد.. وأن أول من حمى المسيحيين المصريين هو الإسلام عندما دخل مصر وأنقذهم من اضطهاد الرومان، وهذه وقائع تاريخية مشهودة ومسجلة ولا خلاف عليها. إذاً فإننا جميعاً – مسيحيين ومسلمين – نساهم فى حماية الوطن والمواطنين كافة.. دون استثناء، والإرهاب عندما يقع لا يفرق بين مسلم أو مسيحى.. وقد سبق أن طال المسلمين قبل المسيحيين.. منذ سنين، والدولة بمؤسساتها المختلفة تحمى الجميع دون تمييز، بل إن التضامن الرائع بين عنصرى الأمة بعد حادثة الإسكندرية أكد أن أول من حمى المسيحيين وواساهم وخفف عنهم آثار المصيبة.. هم أخوانهم المسلمون، وليس البابا الذى يجلس بعيداً عنا ولا يعرف واقعنا ولا يدرك مشاعرنا. وحماية الوطن والمواطن – أياً كان – هى مسئولية سيادية لا خلاف عليها.. ولا تقبل المساومة حولها أو الحديث عنها، وإذا أراد البابا حماية أحد فليبحث عن حماية البؤساء فى فلسطين والعراق وأفغانستان.. وغيرها من البلاد الإسلامية.. أم أن هؤلاء ليسوا بشراً يستحقون أن ترفع الأصوات لنجدتهم وأن تتحرك البشرية لحمايتهم؟! بابا الفاتيكان كرر أخطاءه وتجاوزاته بحق الإسلام والمسلمين مراراً.. حتى قبل أن يتولى مهام منصبه.. ولم يتراجع عن هذه الأخطاء والتجاوزات المتعمدة.. ولم يعتذر عنها.. بل أصر عليها.. وأضاف إليها المزيد من زلات اللسان (المقصودة). وقد رد فضيلة الإمام الأكبر على بابا الفاتيكان قائلاً: إن الأزهر يرى أن المسيحيين العرب جزء أصيل من مكونات المجتمع العربى.. وأن ازدهار المجتمعات المسيحية هو عنصر أساسى لإثراء الحضارة فى الشرق.. وأن الإسلام – بحكم عقيدته وشريعته – يحرص على إبقاء المسيحيين آمنين مطمئنين لهم ما للمسلمين.. وعليهم ما عليهم. هذا هو الحوار الراقى وتلك هى الرؤية الواعية المتحضرة التى يقدمها فضيلة الإمام الأكبر لكافة البشر.. وواقعنا القريب والبعيد يؤكد هذه الرؤية الثاقبة، ونحن نشاهد د. مجدى يعقوب «المسيحى» وهو يرعى المركز العالمى للقلب فى أسوان ويعالج الجميع – مسلمين وأقباطاً – بالمجان.. ونشاهد البابا وهو يستقبل د. أحمد زويل المصرى «المسلم» الذى شرّف وطنه.. بكل عناصره وأطيافه وأطرافه، والكل ساهم فى إثراء حضارتنا. وكم من أطباء وعلماء وساسة مسيحيين ساهموا فى إثراء الحضارة الإسلامية عبر التاريخ.. كما ساهمت هذه الحضارة العريقة العملاقة فى تنوير البشرية والارتقاء بها.. دون تمييز. وعندما يرد الفاتيكان على الأزهر قائلاً: «إن لكل بلد الحق فى الإدلاء برأيه كما يريد ولا أحد يمكنه أن يمنع البابا من التعبير عن رأيه.. وأن الحوار مع الإسلام ليس محصوراً بمصر» ملمحاً إلى الحوار مع إيران!! عندما نقرأ هذا التصريح نكتشف أنه يحمل فى طياته الكثير من المغالطات.. بل إنه يدخل فى إطار (اللعب السياسى) متجاوزاً الحدود الدينية المفروض أن يلتزم بها الفاتيكان! فما قاله البابا ليس رأياً.. بل تجاوزاً وتدخلاً سافراً ومرفوضاً.. من كل المصريين.. مسيحيين ومسلمين، وقد أعلنت الكنيسة القبطية صراحة رفضها لأى تدخل فى شئون مصر.. أياً كانت الجهة التى تقف وراءه، ولا يقبل الفاتيكان من إحدى الدول أن تطالب بحماية أى من الأطراف على أرضه.. على سبيل المثال، فهذا أمر مرفوض طبقاً للقانون الدولى. كما أن هناك فارقاً كبيراً بين حرية التعبير وبين نقل معلومات مغلوطة وخاطئة عن الإسلام والمسلمين، وعلى البابا بنديكتوس أن يراجع أفكاره ومعلوماته فى هذا الصدد وأن يتعرف على كل مصادر الفكر والمعرفة لتكوين صورة صحيحة عن الإسلام والمسلمين.. والأهم من ذلك كله أن يكون عنصراً فعالاً للتقريب بين الأديان والعقائد وأن يشيع روح الود والحب والتفاهم بين كافة البشر، أما الإشارة إلى إيران كبديل للحوار مع مصر.. فهو تهديد مرفوض ولعبة مكشوفة وممجوجة، ومصر أكبر من أن تنطلى عليها.. أو أن تنزلق إليها، ورغم محاولة الإيقاع بين السُنّة والشيعة من خلال هذه الدعوة.. واستغلال أزمة إيران مع المجتمع الدولى – فى مجالات كثيرة – فإننا لا تقبل ولن نسمح بأن يجرنا أحد إلى هذه اللعبة.. حتى ولو من خلال بوابة الفاتيكان!! *** المحور الثانى البارز فى تحرك الإمام الأكبر تمثل فى إطلاق مبادرة «بيت العائلة المصرية».. بعد حادث الإسكندرية، وهذه المبادرة تشارك فيها قيادات الأزهر والكنيسة، إضافة إلى علماء الاجتماع والحضارة والفكر لمواجهة الفتنة والاحتقان الطائفى على أسس علمية ونشر قيم المواطنة بما لا يتعارض مع مبادئ الأديان وخصوصيتها. حقيقة نحن نحيى د. أحمد الطيب على هذه المبادرة التى جاءت فى وقتها تماماً.. وبمشاركة كافة أطياف المجتمع، فنحن نشعر فعلاً أننا أحوج ما نكون إلى «بيت العيلة» الذى اختفى أو كاد تحت وطأة العولمة والحداثة وضغوط لقمة العيش وفساد النفوس ونقص الفلوس! للأسف الشديد.. نلاحظ أن هناك تغييرات سلبية عديدة شهدتها العائلة المصرية.. أبرزها اختفاء أو تراجع الالتزام الدينى والأخلاقى.. وثانيها شيوع الميول العدوانية والممارسات العنيفة.. إضافة إلى توارى التواصل الاجتماعى بين الأسر والعائلات.. وحتى بين الأخوة والأخوات والأشقاء!! فكثير منا يقول إنه لم ير أخاه أو أخته منذ شهور.. بل ربما تمر مناسبات وسنوات لا يرى أفراد العائلة بعضهم بعضاً إلا فى المناسبات الحزينة.. قبل السارة.. مع عظيم الأسى! وعندما التقى الأمام الأكبر بالداعية الإسلامى عمرو خالد وبحث معه الدور الذى يمكن أن يتعاون فيه الجميع لإنقاذ الشباب وتنويره.. فإن هذا اللقاء يصب فى ذات المبادرة (بيت العائلة المصرية).. فهؤلاء الشباب هم أهم مكوناتها.. ومحور حركتها.. وبناه مستقبلها.. ومستقبل مصر كلها. *** نحن نتطلع أن يتعاون الجميع ليس فقط لعودة «بيت العيلة» إلى عهده القديم.. ولكن لأن يعود الأزهر الشريف.. كما كان وسيظل بمشيئة الله.. منارة للأمة وحصناً للوطنية المصرية عبر التاريخ.