ربما يدفعنا نجاح القمة العربية الاقتصادية الثانية فى شرم الشيخ والتى انتهت أعمالها يوم الأربعاء الماضى لتذكر كيف تراجع الطموح العربى من تحقيق الوحدة السياسية إلى مستوى التنسيق، وكيف انخفض سقف الطموح من وحدة اقتصادية وسوق عربية مشتركة إلى تكامل لم نستطع حتى وضع أسسه على أرض الواقع ويبدو أن العرب قد ارتضوا فى النهاية بصيغة التعاون المشترك ربما تكون بداية لانطلاقة أخرى يرتفع معها سقف الطموحات بعد أن أدرك الجميع أن الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للتنمية فى أى مكان على خريطة العالم تحتل مكانة الصدارة على أجندة عالم اليوم بنظامه الدولى الجديد وبمنظماته الدولية والإقليمية. أصبحت هذه الأبعاد محوراً مهماً للتفاعلات الدولية ومحركاً رئيسياً لها، وبات من المؤكد أن أى دور سياسى لأى تكتل دولى أو مجموعة جغرافية سواء فيما بينها أو على مستوى التأثير العالمى يرتبط ارتباطاً كبيراً بمستوى التكامل الاقتصادى والاجتماعى بين أطراف هذا التكتل، ولا أحد ينكر أن هناك محاولات عربية صادقة منذ أكثر من نصف قرن لتحقيق نوع من التكتل أو الوحدة الاقتصادية وأنشئت من أجلها عدد من المجالس، لم تحقق سوى قدر قليل من أهدافها وظلت خطوات التكامل الاقتصادى العربى تتعثر لأسباب عديدة، ففى عام 64 أصدر المجلس الاقتصادى العربى قراراً بإنشاء السوق العربية المشتركة وهدف هذا القرار تحرير التجارة بين الأعضاء عن طريق إعفائها من الرسوم الجمركية تدريجياً وذلك بهدف إيجاد منطقة للتجارة الحرة بين الدول العربية كخطوة أولى نحو تحقيق هذه السوق. وخطا عدد من الدول خطوات فى هذا الاتجاه فى أوائل السبعينيات ولكن هذه الخطوة كان نصيبها التعثر وتم إبدالها باتفاقيات لتيسير التبادل التجارى، ورغم وجود عدد من الاتفاقيات الخاصة بتسوية المعاملات التجارية وانتقال رءوس الأموال وإنشاء عدد من الصناديق العربية للإنماء الاقتصادى والاجتماعى ووضع عدد من الاستراتيجيات العربية المشتركة لتنمية القوى العاملة والتشغيل والتأمينات، إلا أن هذه الاتفاقيات أخذت بُعداً ثنائياً ولم تتحول فى الواقع لاتفاقيات عربية عامة إلى أن ظهر عدد من التجمعات الاقتصادية العربية خارج نطاق الجامعة والتى تمثلت بإنشاء مجلس التعاون الخليجى والاتحاد المغاربى ثم مجلس التعاون العربى الذى لم يكتب له النجاح بسبب الغزو العراقى للكويت، أما الاتحاد المغاربى فقد عصفت به الخلافات السياسية بين أعضائه، ولم يصمد من هذه التشكيلات سوى مجلس التعاون الخليجى الذى لم يستطع بدوره تحقيق نجاحات كبرى تتمثل فى توحيد العملة وإيجاد هياكل اقتصادية موحدة بين دول الخليج الست. لقد اصطدمت المحاولات الاقتصادية العربية للتكامل بالعديد من الصعوبات السياسية والتى ارتبطت بالمتغيرات الإقليمية والدولية مع اختلاف أولويات وأهداف كل دولة لطبيعة مصالحها الوطنية ونسق علاقاتها مع الدول المحيطة بها أو مع العالم الخارجى، فضلاً عن أن فكرة التكامل الاقتصادى أو الوحدة الاقتصادية ارتبطت فى أذهان العالم العربى بالوحدة السياسية التى أصابها الفشل وارتبطت بالاستقطاب السياسى بين النظم العربية وأساءت لفكرة الوحدة والتكامل. ولم يكن ذلك هو السبب الوحيد لفشل المحاولات العربية فى تحقيق القدر الكافى من التكامل الاقتصادى العربى بل إن طبيعة الاقتصاديات العربية واختلاف أنماطها وتفاوت المستوى الاقتصادى بين شعوبها وغياب شبكات النقل بين أجزاء المنطقة ودولها فضلا عن افتقاد الإحصاءات العلمية لحجم الإنتاج والثروات والتصدير والاستيراد لكل بلد وافتقار هذه الاتفاقيات لنصوص واضحة لتحديد طبيعة وشكل التكامل. شكّل هذا كله عوائق عملية ساهمت إلى حد بعيد فى عدم إنجاز أى تقدم ملموس أو خلق قاعدة لتكامل وتنسيق اقتصادى عربى تنطلق منه سوق عربية مشتركة أو وحدة اقتصادية كما حدث فى الاتحاد الأوروبى. ويبدو أن غياب الإرادة السياسية واختلاف طبيعة النظم السياسية بين الأقطار العربية إلى جانب أن بعض هذه الدول اعتبر هذا التنسيق أو التكامل نوعاً من التعدى على السيادة الوطنية ساهم أيضا فى هذا التعثر الذى تحول فيما بعد وعلى مدى عقود إلى تعاون ثنائى خجول حتى إن اقتصاديات أغلب الدول العربية وحجم علاقاتها التجارية والمالية مع دول خارج الإقليم العربى كانت أكثر وأكبر حجما من علاقاتها العربية. لقد بدأ العرب يدركون أن التكامل الاقتصادى العربى هو الوسيلة والطريقة الوحيدة لتحقيق التنمية التى بدورها يمكن أن تحقق مستويات معيشة أفضل للمواطنة، ولقد جاءت فكرة القمة العربية الاقتصادية ببُعدها الاجتماعى والتنموى خلال القمة العربية العادية التاسعة عشرة التى عقدت بمدينة الرياض السعودية فى مارس عام 2007 من خلال اقتراح مصرى- كويتى مشترك وضع يده على طبيعة التحولات والمتغيرات التى تستدعى انعقاد مثل هذه القمة بشكل دورى وتقتصر على القضايا الاقتصادية حيث أشار الاقتراح فى مذكرته التفسيرية إلى أن العالم العربى يمر بمراحل حرجة وتحديات خطيرة لم تعد تقتصر فى تهديدها على أمن وسلامة واستقلال الدول العربية ووحدة التراب العربى بل تجاوزت تلك الأخطار لتمس الأوضاع الاقتصادية والتنموية والاجتماعية والثقافية التى تحيط بحياة وكرامة المواطن العربى وحقه فى العيش الآمن، ورصدت المذكرة ضرورة الاهتمام بالأوضاع الاقتصادية حيث تتفاقم معدلات الفقر والبطالة داخل الدول العربية مع تدهور الأوضاع المعيشية وتواضع حجم التجارة والاستثمارات المحلية فيها وهجرة رءوس الأموال والعقول والكفاءات خارج الأقطار العربية مع ضعف البنية التحتية فى كثير من الدول العربية وعدم مواكبة مخرجات العملية التعليمية مع احتياجات التنمية ومتطلبات المنافسة العالمية. وهدفت الدعوة للقمة إلى تبنى آلية القمم المتخصصة فى إطار السعى لإعطاء المزيد من قوة الدفع للقضايا الاقتصادية وذلك بتدعيم علاقات التعاون المشترك فى هذه المجالات وبلورة برامج وآليات لتعزيز الاستراتيجيات التنموية وتفعيل التعاون الثنائى والإقليمى وتعزيز آليات التعاون العربى مع التجمعات الإقليمية الأخرى والمنظمات والمؤسسات الدولية مع اختبار المشروعات الاقتصادية بحيث يكون لها عوائد ملموسة ومباشرة لدى المواطن العربى وبحيث تكون من هذه المشروعات التى تعزز خطوات التكامل والاندماج الاقتصادى العربى. وبناء على هذا الاقتراح عقدت القمة الاقتصادية العربية الأولى فى دولة الكويت فى يناير عام 2009 وشارك فيها ولأول مرة ممثلو القطاع الخاص فى جميع الأقطار العربية وخصصت هذه القمة خطوات مهمة فى اتجاه تعزيز التعاون الاقتصادى من بينها الانتهاء من استكمال متطلبات إقامة الاتحاد الجمركى ووضع برنامج إطارى للأمن الغذائى ووضع استراتيجية للأمن المائى وبرنامج متكامل لدعم التشغيل والحد من البطالة والفقر ووضع خطة عربية لتطوير التعليم وتحسين مستوى الرعاية الصحية ومباركة جهود القطاع الخاص فى هذه المجالات وتعزيز دور منظمات المجتمع المدنى إلى جانب عدد من المشروعات المتعلقة بالربط الكهربائى العربى والربط البرى بالسكك الحديدية. فى قمة شرم الشيخ الثانية اعتبر القادة العرب والذين استقبلهم الرئيس حسنى مبارك أن هذه القمة تعزز الاتجاه نحو تفعيل العمل العربى المشترك وأن التعاون الاقتصادى العربىأصبح قضية بقاء ومصير، كما قال الرئيس مبارك فى خطابه فى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، مؤتمر شرم الشيخ كان خطوة متقدمة تبنى على ما تم من نتائج مؤتمر الكويت. فقد أدرك القادة العرب من خلال بيانهم أن تدعيم العمل العربى المشترك وفى مقدمته التعاون الاقتصادى أصبح أحد متطلبات الأمن القومى العربى وجزءا مهما فى الدفاع عن المصالح والقضايا العربية، واعتبروا أن قضية التشغيل أبرز التحديات التى تواجه العالم العربى وجزء لا يتجزأ من الجهود العربية لتطوير التعليم والبحث العلمى. لقد كانت دعوة الرئيس مبارك إلى القمة لبلورة رؤية عربية مشتركة لسبل التعامل مع الأزمات الاقتصادية العالمية وسبل الوقاية منها والتخفيف من تداعياتها على الاقتصاديات العربية بمثابة تحذير لهذه الاقتصاديات التى تعرضت لهزة من جراء الأزمة العالمية الأخيرة والتى كان من الممكن أن تنجو منها بعض الاقتصاديات العربية أو على الأقل التخفيف من آثارها لو كانت فى إطار تجمع وتكامل اقتصادى عربى يشكل قوة فى مواجهة هذه التداعيات ولهذا فقد خرج مؤتمر قمة شرم الشيخ بأولويات اقتصادية عاجلة أبرزها الاهتمام بقضايا التشغيل والاستثمارات والمشروعات العربية المشتركة وكيفية التعامل مع الأزمات العالمية والتأكيد على أهمية تحقيق الأمن الغذائى العربى وتكثيف التعاون فى مجالات الطاقة والربط البرى والكهربائى واستكمال البنية الأساسية وتدعيم شبكات الاتصال والمعلومات وتفعيل كافة الاتفاقيات التجارية والجمركية التى تمهد لتأسيس سوق عربية مشتركة طال انتظارها. يبدو أن مؤتمر شرم الشيخ كشف عن وجود فكر جديد للتعامل مع القضايا الاقتصادية العربية حيث بحث هذه المرة عن آليات لتنفيذ كافة الاتفاقيات التى تؤسس لهذا التوجه، والمهم أن هذا المؤتمر كشف أيضا عن توافر الإرادة السياسية لتحقيق هدف التكامل العربى وإنشاء السوق العربية المشتركة التى ينتظرها الجميع، ربما تكون أساسا لتحقيق الحلم القديم فى إنجاز وحدة اقتصادية عربية تخرج العالم العربى وشعوبه من أزماته الاقتصادية والاجتماعية، ويبدو أن الأمل هذه المرة قد يتحقق حتى ولو بعد عقد أو أكثر وخصوصا أن مخاوف الماضى قد انتهت وأصبح هناك ما يشبه اليقين بحتمية التكامل الاقتصادى والتعاون العربى الذى يجب أن ينتهى بتحقيق الحلم العربى فى وحدة اقتصادية حقيقية ربما تساعد حتى ولو بعد حين على تحقيق الحلم الكبير.