إذا كان التاريخ المصرى تزدحم قوائمه بالشخصيات العامة التى عادة ما تثير الجدل فى حياتها فإن ذلك ينتهى بوفاتها إلا هذا الرجل الذى استمر حوله الجدل فى حياته وبنفس القدر بعد مماته وذلك لتركيبة خاصة اتسمت بها شخصيته وظروف نشأته إنه المفكر السياسى الحقوقى المصرى يوسف درويش الذى ينطق اسمه بمصريته الصميمة فضلا عن تاريخه النضالى المشهود من أجل حياة أفضل لمصر التى أحبها لدرجة العشق ولشعبها خاصة الطبقة التى تعاطف معها وهم البسطاء من العمال والفلاحين وكانوا يمثلون فى النصف الأول من القرن الماضى الطبقة المطحونة التى عانت شظف العيش وكل أشكال الفاقة والحرمان. وقد ولد يوسف درويش فى الثانى عشر من أكتوبر 1910 أى قبل ثورة 1919 بتسعة أعوام ليشهد فى شبابه المد الثورى الذى أكد لديه انتماءه القومى وانحيازه لعامة الناس من الطبقة العاملة الفقيرة آنذاك. وتنتسب عائلته إلى طائفة اليهود القراء بين تلك الطائفة التى استقى من عقيدتها منهجه العقائدى ومن أهم عناصر تلك العقيدة أنها تؤمن فقط بالتوراة دون التلمود ومن هنا كان رفضهم القاطع لعودة اليهود إلى أرض فلسطين. وقد تجلى ذلك عند يوسف درويش فى هجومه الضارى على الصهيونية العالمية ورفضه لفلسفتها الاستعمارية. وكان عدد طائفة القرائين فى مصر يماثل عددهم فى كل دول العالم وكان العديد منهم لا يعرف سوى العربية كلغة للتخاطب وكرافد أساسى ينهلون منه ثقافاتهم فى شتى المجالات وذلك اعتزازا بها وانتماء أصيلا إليها.. وكانت طائفة الربانيين والذين يقوم إيمانهم على التوراة والتلمود معا يتعاملون مع القرائين بقدر من التعالى فضلا عن انتقادهم للقرائين بأن صلاتهم تشبه صلاة المسلمين بما فيها من ركوع وسجود لله. ومما يجدر ذكره والذى لم يخل من طرافة أن هذه الطقوس كانت سببا مباشرا لنجاة القرائين من الهلوكست «أفران الغاز النازية» إذ لم يعاملهم هتلر كيهود تقليديين ويقال إنه قد خلع عنهم صفة اليهودية. ومن هنا كان المناخ الروحى والثقافى الذى نشأ فيه يوسف درويش والذى استمد منه معارفه الحياتية وكذلك الانتماء القومى لوطنه الذى أخلص له.. مصر. وقد التحق يوسف درويش بمدارس الفرير الابتدائية والثانوية القريبة من منزل والده صائغ الجواهر ليسافر بعدها إلى فرنسا ليحصل على ليسانس الحقوق 1934 ويعادله بعد عشر سنوات بالليسانس المصرى ليعمل بالمحاماة إلى جوار نشاطه السياسى الذى انصب حول الدعوة إلى الاشتراكية تحقيقا للمساواة وتقريبا للفوارق بين أفراد الشعب المصرى وعدم تميز النخبة الحاكم آنذاك بكل ما فى البلد من خيرات وموارد.. وبعد ثلاث سنوات وفى عام 1947 شهر يوسف درويش إسلامه ورغم أن هذا الموقف شديد الخصوصية فى اختيار معتقده الدينى لم يضف إليه جديدا على المستوى السياسى تطبيقا للمقولة المصرية التاريخية «الدين لله والوطن للجميع» فإنه أراد اتخاذ هذا الموقف كقناعة إيمانية وكذلك تأكيداً لانضمامه للأغلبية المسلمة بعد هجرة أفراد أسرته إلى أوروبا وأمريكا والبعض القليل منهم إلى إسرائيل مثل أولاد دواد حسنى الموسيقار الشهير.. وكما ورد فى حديث استمعت إليه خلال لقاءاتى المعدودة مع الكاتب الساخر وشيخ الحكائين الراحل محمود السعدنى فى مقر النادى النهرى للصحفيين إبان افتتاحه فى أواسط التسعينيات من القرن الماضى أن يوسف درويش واصل بعد عودته من فرنسا نضاله السياسى بانضمامه للحركة الشيوعية مناصراً لقوى الشعب العاملة مما جعله يعتقل عدة مرات خاصة بعد تأسيسه منظمة «طليعة العمال» وقد شاركه السعدنى بعضاً من سنوات اعتقاله وصار درويش بعد ذلك من قيادات الحزب الشيوعى الموحد والذى واجه مع زملائه فيما بعد حملات مكثفة من الاعتقالات حتى تم حل الحزب الشيوعى المصرى 1962. وتمر السنوات ليغادر يوسف درويش مصر 1975 متوجها إلى براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا وكان على اتصال دائم بالحركة السياسية المصرية التى التزام بمواثيقها رغم التحولات التى حدثت للنظم الاقتصادية وانحسار التيار الاشتراكى على المستوى العالمى فإنه ظل مخلصا لاتجاهه الاشتراكى قناعة منه بأنه الاتجاه العادل نحو المساواة الذى يتيح العيش الكريم لكل أفراد الأمة بلا تمييز عنصرى وذلك حتى وفاته فى 2006 لتنتهى حياته الأسطورية والتى امتدت فى ابنته نولة يوسف درويش الناشطة الحقوقية المعروفة والتى انتهجت نهجا سياسيا مشابها لنهج والدها الراحل وإن كانت قد حصرته فى ميدان النضال من أجل حقوق المرأة المصرية والعربية انطلاقا من اتجاه يجنح كثيرا نحو الاشتراكية الديمقراطية. ويمتد أثر يوسف درويش أيضا فى حفيدته النجمة الشابة بسمة ابنة نولة درويش والتى دائما ما تفتخر بجدها المناضل المصرى الراحل، وتحاول جاهدة تعريف الأجيال الجديدة بالتاريخ النضالى ليوسف درويش من خلال المؤتمرات الجماهيرية واللقاءات الشعبية وآخرها احتفالية كبرى نظمتها مكتبة الإسكندرية إحياء للذكرى المئوية لميلاد يوسف درويش كمناصل مصرى أحب وطنه وأخلص له العطاء.. رحمه الله يوسف درويش الذى ظلم كثيرا ولعل السنوات القادمة تحمل له إنصافا هو يستحقه لقاء ما قدم فى حياته من ملحمة للنضال الوطنى المشرف.