حانت لحظة أن يغير العالم نظرته إلى القارة الأفريقية وخاصة الأوروبيين على اعتبار أن أفريقيا هى القارة الأكثر شباباً كما أنه شريك جدير بالاحترام فى جميع المجالات، فمع افتتاح القمة الثالثة عشر للهيئة الدولية الفرانكوفونية فى 21 أكتوبر الماضى، قدم الصحفى الفرنسى «هرفية بورج» كتاباً جديداً يحمل عنوان «أفريقيا لا تنتظر» يضم حوالى 183 صفحة، ويشير إلى انطلاق القارة السوداء فى مواجهة تحديات العولمة. الكاتب من مواليد مدينة «رين» الفرنسية فى 2 مايو عام 1933، وحصل على شهادة المدرسة العليا للصحافة من مدينة «ليل»، ثم على درجة الدكتوراة فى العلوم السياسية، شغل العديد من المناصب المهمة منذ عام 1956 وحتى عام 2010 كان أهمها مستشاراً خاصاً للرئيس الجزائرى الراحل «بن بلا» الذى منحه الجنسية الجزائرية، كما عمل فى عام 1993 سفيراً لدى هيئة «اليونسكو»، وهو الآن رئيس المجلس الأعلى للسمعيات والبصريات الفرنسية - الجزائرية، قدم خلال حياته الطويلة حوالى 11 كتاباً فى الفترة ما بين عامى 1967 و2010 كان أهمها بعنوان «الجزائر وتجربة السلطة» و«ثورة الطلبة» و«ليوبولد سانجور» و«أفريقيا لا تنتظر»، ومن خلال الكتاب الأخير يتضح مدى حب وشغف «بورج» بالقارة الأفريقية التى يعتبرها مخزوناً كبيراً للثروات الاقتصادية والثقافية والفنية، موضحاً أن أفريقيا اعتمدت على تجربتها الشخصية، ومعرفتها بطبيعة قيمة الإنسان والأرض، ومسئولياتها بإقامة العديد من المدارس الصحفية، لذا باتت تتساءل اليوم حول مستقبل ذلك الغرب. فى هذا الكتاب القصير المكثف، الملىء بالحجج والاستنتاجات ينادى المؤلف بضرورة تغيير نظرة الغرب لأفريقيا، قائلاً ببساطة:(نحن فى حاجة إلى القارة الأفريقية)، كما أوضح أن ذلك الاعتراف يتطلب عدة شروط مهمة من بينها الجانب الاقتصادى وضرورة إلغاء مسألة الديون، والمنطلق السياسى الذى يتحدد فى اعتبار أفريقيا شريكاً أساسياً، أما على المستوى الثقافى، فقد أكد أنه لابد من تدعيم العمل المشترك من أجل تحقيق نهضة حقيقية لكافة الأطراف، ففى هذا الكتاب الذى يتضمن الأمل والصراع فى نفس الوقت، تحدث الكاتب عن مسألة صحوة الضمير، إذ قال: لابد من التخلى عن تلك النظرة القديمة تجاه القارة السوداء.. علينا أن نشارك أفريقيا الحية والخصبة والمليئة بالوعود من أجل التطور المزدهر، الأمر الذى يتطلب التخلى عن العقد القديمة والمخططات المخجلة، إذ مازال هناك الوقت أمام فرنسا، وأفريقيا لمزيد من التخيل دفاعا عن المصير والمستقبل المشترك. فبعد حوالى خمسين عاماً من موجة الحركات الاستقلالية الكبرى، تغيرت قواعد اللعبة، وعملية توازن الأقطاب الثنائية التى باءت بالفشل، مما أدى إلى فقدان الدول العظمى للثروات، وذلك فى مواجهة أقطاب جديدة ذات سيادة، وسلطة فى كل من قارة آسيا وخاصة الهند، ثم فى جنوب أفريقيا، وهنا يسترسل «بورج» شارحاً:(حول هذا المضمون لابد من طرح سؤال مهم حول مستقبل القارة الأفريقية التى تشهد انقلاباً عميقاً وسريعاً لم يكن مشهوداً من قبل، وذلك مثل الديناميكية الاقتصادية، والغليان الثقافى، والازدهار الفنى، والاستثمار المنتج، مؤكداً بذلك أن القارة الأوروبية صاحبة السلطة الامبريالية القديمة اكتشفت ذلك متأخراً متوهمة أنها يمكن لها الاستغناء عن أفريقيا، ويؤكد الكاتب أن سياسة فرنسا «الخرقاء» المبنية على مشاعر الرحمة والشفقة وعقدة الإحساس بالذنب والأثم أثبتت ما أسماه «بورج» سياسة الشفقة المخادعة، لذا فهى تجد صعوبة الآن فى ايجاد الأسلوب الأمثل لتحديد علاقاتها بالدول الأفريقية، بهدف إقامة علاقات طبيعية على أسس احترام خصوصية وتطلعات هذه الدول. وحتى يفتح الغرب عينيه على ذلك الواقع الجديد قدم المؤلف صورة أفريقيا، موضحاً:(هناك مساحات مهمة فى أفريقيا الغد لم يتم استثمارها والاستفادة منها بعد، إنها الثروة البكر، حيث تشهد أفريقيا نموا ديموغرافيا لا مثيل له، يعتمد على الثروات الطبيعية والثقافية وعالم السياسة الهائل)، وطبقاً لما ورد عن الكاتب لوسائل الإعلام الفرنسية أكد أن أفريقيا مدعوة للعب الدور الأول على الصعيد العالمى، ويعطى أمثله على ذلك بغابات حوض «الكونغو» التى تعتبر الرئة الثانية للكوكب ككل بعد «الأمازون»، كما لم يغب عن الكاتب التحدث عن الأنهار العملاقة التى تخترق القارة، وذلك مثل نهر الكونغو، ونهر النيل، والنيجر، والسنغال، إذ أن هذه الأنهار والبحيرات جعلت من القارة قلعة المياه فى العالم، وخزانا احتياطيا للتنوع الحيوى، هذه الثروات كلها لابد أن تسمح لأفريقيا بقوة التأثير على التوازن السياسى والاقتصادى العالمى، كما يلقى الكاتب بالضوء على الإنجازات الاقتصادية التى تحققت فى كل من جزيرة «موريس» والمغرب وتونس وغانا وجنوب أفريقيا وبوتسوانا الذين حققوا نمواً اقتصادياً مشهودا فى خضم الأزمة الاقتصادية العالمية فى عام 2009. أما الأمل الآخر أمام القارة الأفريقية فيتمثل فى تلك الدفعة الديمقراطية التى تسود معظم الدول، وذلك عن طريق الإصرار على إقامة انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، وذلك كما حدث فى السنغال ومالى وبنين وجنوب أفريقيا وغانا وبوتسوانا ومالاوى وتنزانيا وسيراليون وليبيريا. وهنا يؤكد «بورج» قائلاً: هذه هى المؤشرات التى تدل حتما على أن القارة الأفريقية فى حالة حراك وفى طريقها إلى التغيير بعد أن تولت زمام أمورها بنفسها لتحديد مستقبلها الجديد، هناك الآن صحافة حرة برزت لتصبح أحد العناصر المهمة لإقامة حياة ديمقراطية سليمة وليست زائفة، الأمر الذى يمهد لها أن تصبح قوة ديناميكية فى القرن الحادى والعشرين. هذا الكتاب الجديد المهم اعتمد على أفريقيا الغنية بشبابها، وبمواهبها المتعددة، ورغبتها وإدارتها نحو مستقبل أفضل بكثير مما هى عليه الآن، وأن نظرة الشفقة التى تتبناها بعض الهيئات والمؤسسات الخيرية الدولية يجب أن تختفى أمام قارة بات أداؤها أحسن بل أفضل بكثير من الأداء الأوروبى، خاصة أداء الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث إن القارة الأفريقية تتصرف اعتماداً على نفسها بما لديها من قدرات، بينما الآخرون فى انزلاق محزن والقارة التى يقال عنها إنها لا تملك الأموال اللازمة تفعل كل شىء دون تجاهل الدور النسائى الشجاع الذى يعول أسر بأكملها دون ضجر بابتسامتهن العريضة. كما لم يفت الكاتب الحديث عن عمليات السرقة والسطو التى تعرضت لها القارة الغنية على مدى سنوات مظلمة طوال، حيث أصدرت هيئة «اليونسكو» فى بداية التسعينات قرارا بمنع تهريب الأقنعة والتماثيل والتحف الأفريقية القديمة. ويسرد «بورج» قائمة من مشاهير أفريقيا، مثل الروائى «سيمون نجامى» والمخرج «سليمان سيذير» و«اداريا أدراوجو» و«جفن هود» ومصممة الأزياء «أومو سادى» والنحات «عثمان سوى» والمطرب «يوسو ندور»، إذ لم تعد أفريقيا مجرد شواطئ رملية، وفنادق الخمس نجوم لخدمة السياحة، بل هى تضم أيضاً تلك القرى الصغيرة التى يعمرها أناس حقيقيون يصارعون يوميا من أجل الحياة دون توافر الأموال اللازمة او المياه أو الكهرباء، هؤلاء الناس يعملون ببشاشة وبصبر وجلد ودون شكوى يصنعون المعجزات، الأمر الذى بات يحسدهم عليه الغرب.