فى الفترة الأخيرة بدت لنا بعض الغيوم التى لبدت سماء الوحدة الوطنية ورغم الرفض القاطع الذى استُقبلت به من جموع الشعب المصرى فإننا يجب أن نتعامل مع هذه الغيوم بمنطق يختلف كثيرا عن منطق النعامة التى تخفى رأسها حتى لا ترى الآخرين ظنا منها - على غير الحقيقة - أن الآخرين هم أيضا لن يروها، وإن كنا على قناعة تامة بأن هذا المنطق خاطئ بكل المقاييس ولا يعنى ذلك أننا نستهدف تهويلا للقضية ولكننا فى الوقت نفسه ننأى بأنفسنا عن أى تهوين لأن ذلك ليس فى مصلحة الوطن.خاصة أن بوادر هذه الفتنة مازالت نائمة ونحن كشعب مصرى واحد واجبنا الوطنى أولا والدينى ثانيا يحتمان علينا أن نقتلها فى مهدها دون أن نضطر آسفين إلى أن نلعن من يوقظها وذلك فى الوقت المناسب حيث نستطيع استدراك عواقبها بما سوف يمتنع علينا فى المستقبل، لأن ذلك مصير أمة عريقة قوامها فاق الثمانين مليونا وعمرها تجاوز آلاف السنين وليس من المعقول أن ندع هذا المصير رهنا لنزوة أو لرغبة خبيثة أو لمراهقة سياسية تغلف هذه الأحداث بغلالة ذات صلة بالأديان كذبا وإفكا وبهتانا لأنه لا توجد ثمة علاقة لهذه الأحداث بجوهر الإسلام والمسيحية، فلن تجد أقرب إلى المسلمين من الأقباط ولن تجد أقرب إلى الأقباط من المسلمين وذلك بنصوص صريحة فى القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون» صدق الله العظيم سورة المائدة: 82 كما أن عقيدة المسلم لا تكتمل أركانها إلا بالإيمان بكل الأديان السماوية التى سبقت الإسلام دون أن نفرق بين أحد من رسله كما جاء فى ختام سورة البقرة حيث يقول الله تعالى فى كتابه العزيز «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» صدق الله العظيم. وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم فى حديثه الشريف خيرا بمصر وشعبها حين قال «أوصيكم بأهل مصر خيرا فإن لنا فيهم نسبا وصهراً» صدق رسول الله الذى كان يقصد زواجه من السيدة ماريا القبطية أم ولده إبراهيم وكذلك السيدة هاجر أم إسماعيل والملقبة بأم العرب زوجة نبى الله إبراهيم أبى الأنبياء. من هنا ندرك العلاقة الوثيقة التى تربط الإسلام بسائر الأديان خاصة المسيحية والتى تمتد علاقات صلة الرحم بينهما بما يقارب ألفاً وخمسمائة عام مما يخلق تميزا وتفردا ذا خصوصية فى علاقة المسيحية والإسلام فى مصر دون سائر أرجاء الدنيا جميعا فى وحدة لم تنفصم عراها يوما فى مواجهة كل ما تعرضت له مصر من محن وحروب كان فيها المسلم إلى جوار أخيه القبطى حاملين أرواحهم على أكفهم رغبة فى الاستشهاد فداء لها وحماية لترابها. وحرب أكتوبر ليست ببعيدة حيث اختلطت دماؤهما ورمال سيناء لتشكل ملحمة وطنية وتاريخية سوف تظل شاهدة عبر العصور على أخوة أشقاء الوطن مهما حاول المغرضون وأصحاب النوايا السيئة من محاولات سوف تبوء حتما بالفشل الذريع أمام وحدتنا الوطنية ومصيرنا الواحد. وإذا كانت بعض من هذه الغيوم الطارئة وراءها قلة مارقة افتقدت الضمير الوطنى وقبله الوعى الدينى من دعاة التعصب والجهالة هنا وهناك وكأننا فى سباق هزلى حول مسيحى أو مسيحية تحولا إلى الإسلام أو العكس وهذا وارد حدوثه فى كل العصور والأزمان حيث لا إكراه فى الدين ولكل إنسان حرية ما يعتقده وفقا لقناعاته الإيمانية لتنتهى إلى عبادة الله الواحد الأحد وإن اختلفت الطقوس والعبادات. والقضية ليست كما صورها البعض فى الشهور الأخيرة عبر وسائل الإعلام المختلفة وكذلك مواقع الشبكة العنكبوتية «الإنترنت» وهى التى تتحمل التبعة الكبرى فى تأجيج المشاعر بشكل مبالغ فيه يتجاوز أهمية هذه الأحداث الفردية والتى لا يجوز تعميمها بصورة يتولد عنها هذا الاحتقان المفتعل والمرفوض من غالبية المسلمين والأقباط على حد سواء. لأن الإسلام والمسيحية لا ينتظران هذا وهذه أو ذلك وتلك كزيادة محدودة عما يؤمن بهما من أعداد تجاوزت المليارات فى كلتا الديانتين. ومن هنا يكون تقييمنا لهذا الاحتقان المؤقت والذى لا يقوم على وازع دينى بقدر ما هى فتنة مشبوهة تستهدف الوطن أولا وأخيرا. وقد فطن إلى ذلك الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب حين استنكر هذه الأحداث الغريبة على مجتمعنا المصرى معبرا عن وسطية الأزهر الشريف التى تتيح العيش فى سلام لكل المصريين على أرض مصر وكذلك ما صرح به مرارا وتكرارا قداسة البابا شنودة فى قولته البليغة: إن مصر ليست وطنا نعيش فيه ولكن مصر وطن يعيش فينا. وقد كانت تصريحات قداسته فى عظته الأسبوعية الأخيرة حين علم بالفعلة الدنيئة للقس الأمريكى المتعصب تيرى جونز بعزمه على حرق نسخ من المصحف الشريف فقال البابا شنودة فى كلمات صريحة وواضحة: إن من يدعو لذلك لا دين له ولا عقل له ولا يمتلك روحا طيبة كما يعطى فكرة سيئة عن دينه. وقد كان لهذه الأصوات الحكيمة وتوحد موقفها الأثر الفعال فى تراجع جونز مع سائر الأصوات العالمية المتزنة مثل القسيسة ديبورا ليندس بكنسية فرست كميونتى بولاية أوهايو الأمريكية والتى تدافع دوما بضراوة عن الإسلام والمسلمين وتنفى عنه صفة الإرهاب. وإذا كان هؤلاء الحكماء قد ضربوا لنا المثل فى التسامح والإخاء بين كل الأديان السماوية فإننا ما أحوجنا - مسلمين وأقباطا - فى هذه الأوقات الدقيقة لمزيد من الحكمة والموعظة الحسنة اقتداء برسول الله صلوات الله وسلامه عليه وبتعاليم السيد المسيح عليه السلام حتى نرى جميعا وطننا الغالى مصر كما نتمناه وطنا آمنا مطمئنا ترفرف فى سمائه أعلام العز والسؤدد فى ظل وحدة وطنية خالدة إلى ما شاء الله.. آمين.