لاحظ الناقد الدكتور محمد عبد المطلب أن الشعراء في تزايد لا في تناقص، ويقول: لو أننا حصرنا رواد الحداثة الشعرية في العصر الحديث ما زادوا على أصابع اليدين، فإذا انتقلنا إلى الجيلين التاليين لجيل الريادة، فسوف نجد تزايدا لا تناقصا، فإذا وصلنا إلى عام 2018 فسوف نلحظ أن كم الشعراء لم يعد قابلا للحصر، ما يعني اتساع القاعدة الشعرية. ويرى د. عبد المطلب - في بحثه المنشور في تقرير حالة الشعر العربي الصادر عن أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف السعودية 2019 وجاء في ثلاثين صفحة – أن هذا التزايد في الشعراء وازاه تزايد كمي في الدواوين الصادرة، موضحًا أن بعض المسؤولين حصروا الدواوين الصادرة في مصر عام 2018 فيما يزيد على مائتي ديوان حسب التسجيل في دار الكتب المصرية، ومن ثم يتزايد هذا الرقم إذا أخذنا في الاعتبار النشر الخاص الذي لم يسجل رسميًّا. غير أن الدكتور محمد عبد المطلب يرى أن تناول واقع الشعر العربي في عام 2018 لن يكون تناولًا علميًّا صحيحًا دون استعادة الأصول لركائز الشعرية العربية، مؤكدًا أن كل حديث يتجاوز هذا المدخل يكون حديثًا عن فن بلا جذور يقوم عليها، وعليه فإنه يتحدث عن أربع ركائز محددة لملامح الهوية الإبداعية للشعرية العربية وهي: الإيقاع الموسيقي، بدءًا من النسق الخليلي إلى مرحلة التفعيلة، إلى المرحلة الأخيرة التي مثلت هجرة شبه جماعية إلى "قصيدة النثر" التي استبعدت النظام العروضي من إبداعها، أما الركيزة الثانية فهي اللغة الشعرية التي تخالف اللغة المثالية والتي هدفها هو التوصيل، بينما تخلت لغة الشعر عن هذا الهدف، بينما كانت الركيزة الثالثة هي التخييل، والرابعة هي المعنى، ويؤكد الناقد أن قصيدة النثر لم تحدث تعديلًا في الموسيقى مثل مرحلة التفعيلة التي جاءت بديلًا عن البحر، وإنما حدث إسقاط وحذف حيث أسقطت قصيدة النثر الموسيقى العروضية نهائيًّا واعتمدت على ركيزتين فقط هما: اللغة والتخييل. أما ركيزة اللغة فيرى الناقد أنها وصلت إلى العصر الحديث، وإلى العام الذي نحن بصدده (2018) محملة بركام كبير من ميراثها القديم، ومحملة ببعض هوامش القداسة نتيجة لارتباطها بالنص المقدس، لكنها استطاعت الخلاص من بعض هذا وذاك. بل إن شعرية الحداثة لم تكتف بإزالة الفاصل التقديري بين اللغة والكلام، وسعت إلى التعالي عليهما معًا عندما اتجهت للتعامل مع تقنيات غير لغوية مجلوبة من فنون غير لغوية مثل تقنيات الفنون التشكيلية في الرسم والنحت والتصوير، وتقنيات الصورة المتحركة مثل السيناريو والمونتاج والصورة المكبرة والمصغرة والقريبة والبعيدة والمواجهة والجانبية. ويشير د. عبد المطلب إلى أن الشعرية في اندفاعها إلى التجريب وتطلعها إلى البكارة أهملت بعض ظواهر الجمالية، وهو المظهر الذي قدسته الكلاسيكية، وحافظت عليه الرومانسية، واحترمته الواقعية، وكان هذا الإهمال واضحًا في شعرية جيل السبعينيات وما تلاه وصولًا إلى عام 2018 وقد أرهق هذا الإهمال المتلقي العام والخاص على حد السواء. ويتوقف د. عبد المطلب طويلًا عند قصيدة النثر مشيرًا إلى أن هذه القصيدة لا ترفض الإيقاع مطلقًا، ولكن يعني أن كل إبداع يختار الإيقاع الذي يناسبه، والتناسب مشروط بأن يكون الإيقاع شديد الالتحام بالبناء التركيبي والدلالي لا يكون سابقًا ولا لاحقًا عليه، موضحًا أن الإيقاع لا ينفصل انفصالًا كاملًا في قصيدة النثر عن إيقاع الشعر العربي، فمهما يرتفع الإيقاع في الشعر عامة، وينخفض في قصيدة النثر خاصة، فإنه لن يخرج عن نطاق (الحركة والسكون) وتحولاتهما في القرب والبعد والتدخل، وهذه التحولات مسموعة بوضوح في الشعر، لكنها خافتة في قصيدة النثر، ومن ثم فهي في حاجة إلى أن تحل في وسط هادئ حتى يمكن الإحساس بها، ولأننا لا نحسن الإنصات – أحيانًا – أصدرنا الحكم الفوري بغياب الإيقاع تمامًا في قصيدة النثر. ويرى ناقدنا أن قصيدة النثر لم تعد حريصة على (الأمثل) و(الأفضل) كما هو السائد المأمول في مسيرة الشعرية العربية، وإنما هي حريصة على (الأنسب)، وهو ما يسمح لها بالابتعاد النسبي عن (المثال) الفني، ومقاربة الواقع التنفيذي، ومن ثم فإنها تؤثر (الصحة الجمالية) على (الصحة اللغوية)، وتؤثر (الصحة الإيقاعية) على (الصحة الموسيقية). وليس هذا معناه أنها تسمح لنفسها بالخطأ اللغوي، فهذا غير صحيح، فعقيدة شعراء قصيدة النثر عدم مقاربة هذا الخطأ، بل إنهم ينفرون من مصطلح (الضرورة) الذي آثرته الشعرية التراثية حرصا منها على (الصحة الموسيقية). غير أنه يؤكد أن قصيدة النثر استبعدت المتلقي من حسابها استبعادًا مؤقتًا، وتبرير ذلك أنها حريصة على أن تكون صادقة مع نفسها أكثر من صدقها مع الآخر، بل إنها لا تأنف من صدم هذا الآخر في بعض ركائزه الثقافية والمعرفية. ويوضح د. محمد عبد المطلب أن مفارقة قصيدة النثر لازَمَه مفارقة (النقاء العرفي) و(الصفاء اللغوي)؛ إذ هما ينتميان إلى (مثال) لم يعد هذا أوانه، فالزمن (زمن الهجنة) واختلاط الأنساب الإبداعية، وتداخل المعايير الجمالية، وامتزاج التقاليد والأعراف، وأصبح من العسير الفصل بين (النقي والمشوب) و(الصافي والعكر) لتغير المقاييس التي يقاس بها هذا وذاك، أي أن (الصفاء والنقاء) أصبحا نوعين من القوالب المعلبة التي فقدت شرط الصلاحية، وعليه فقد أصبح مألوفًا أن تحل الشعرية في نصوص غير شعرية، وأن تحل النثرية في نصوص شعرية، وأصبح مألوفًا أن نتابع في النص كمًّا وافرًا من تقنيات السرد والحوار، مجاورة لكم وافر من الغنائية الذاتية، وأصبح مألوفًا حضور التفاصيل اليومية والمفردات الحياتية والهموم الوقتية، خلال أبنية المجاز والرمز والإشارة، أي أن مساحة المشترك أصبحت أوسع من مساحة الخاص. ومن هنا نرى أن الحداثيين سعوا إلى مغادرة المعجم المستهلك في الصفاء اللغوي، والقفز إلى (التداولي) الذي تقارب مع (القبيح) لتصعد به إلى أفق الجمالي. وعليه فإن قصيدة النثر جاءت تقنية أدبية في إطار تقنيات العولمة، لها آليات إنتاج، ولها معايير جمالية يمكن أن تضيف للشعرية إضافات لم تكن تحوزها من قبل حسب رؤية د. محمد عبد المطلب الذي يؤكد أن معظم رافضي قصيدة النثر أسسوا رفضهم على الربط بين الشكل والموسيقى، فإذا غابت الموسيقى غاب الشكل، وإذا غاب الشكل غابت الموسيقى، وهو ما يعني أن الإيقاع الموسيقي أصبح هدفًا في ذاته، وفي يقين ناقدنا أن هذه العقيدة الإبداعية تنافي العقيدة الشعرية في العربية منذ أن كانت "ديوان العرب" حتى اليوم، إذ أن هذه العقيدة قدمت الإيقاع الموسيقي على سواه من الركائز بوصفه (أداة) لا بوصفه هدفًا، ومن حق كل شاعر أن يختار الأداة التي تناسب عزفه. وفي ملاحظته على قصيدة النثر في الزمن الأخير يرى د. محمد عبد المطلب اهتزاز العلاقة بين طرفيها حتى وصل الأمر إلى (عكس القضية) حيث تحول المصطلح من (قصيدة النثر) إلى (نثر القصيدة)، وبعد أن كانت العقيدة الإبداعية: إنتاج نص شعري مشبع بطاقة نثرية، أصبحت العقيدة: إنتاج نص نثري مشبع بطاقة شعرية، وبعد أن كان الطرف الأول (قصيدة) يستمد من الطرف الثاني (نثر) طاقته التعبيرية والجمالية، أصبح الطرف الأول هو (النثر) الذي يستمد طاقته الجمالية من الطرف الثاني (قصيدة). ويداخل نقادنا إحساس من خلال متابعته لكم وافر من إبداعات قصيدة النثر في زمنها الأخير، بأن معظم هذه الإبداعات قد عدّلت مسارها الجمالي، وأوغلت في النثرية، مستثمرة كثيرًا من تقنياتها على حساب تقنيات (القصيدة) فمع غياب الموسيقى غيابًا مطلقًا، أخذ (التخييل) في الانحسار، وتبعهما المعنى، حيث استحال إلى إمكانية لغوية ذهنية تكاد تكون مغلقة على منتجها. ويشير الناقد إلى أن اقتراب (قصيدة النثر) على هذا النحو قد دفعها أكثر إلى الانشغال باليومي والحياتي بكل تفصيلاته المركزية والهامشية، وأصبحت اللحظة الآنية هي صاحبة الحظوة، وخطورة ذلك كله أنه لا يحتاج إلى الدخول في الحالة الشعرية، ذلك أن الانشغال بالوقائع المباشرة يعتمد (المحاكاة) وفي رأيه أن المحاكاة لا تنتج إبداعًا صحيحًا، لأن وظيفتها هي (الإثارة) فحسب، أيضًا يلاحظ أن سيطرة النثرية على قصيدة النثر جاء إشارة مبكرة لانحسارها النسبي حاليًا. وينتقل ناقدنا إلى الشعر الرقمي أو النص الإلكتروني الذي كان سريع الانتشار واسع المساحة القرائية، مع إفساح المجال للتعليقات والتحليلات، ويقول: لا يمكن فصل كل هذا الذي قدمه الفضاء الإلكتروني عن مسيرة التطور للشعرية العربية، فقد ظلت هذه المسيرة محافظة على موروثها، مع تطويعه ليتوافق مع التغيرات الحضارية والثقافية التي مرت بها الأمة العربية وصولًا إلى هذه اللحظة في عام 2018 سواء تم ذلك بالجهد الفردي أو الجماعي، وهو يحذر من طبيعة المجاملة بالإيغال في المديح، أو طبيعة العدوان بالإيغال في الهجاء على الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي، ويقول: الحق أني كنت أقرأ هذا وذاك ولا أكاد أجد مبررًا للمديح أو الهجاء، لأن معظم المتداخلين من الفاقدين للخبرة النقدية، بل الفاقدين للذائقة الجمالية. أما عن ترجمة الشعر فيرى د. محمد عبد المطلب أنها تكاد تكون مستحيلة؛ لأن اللغة العربية لغة سياق لا لغة معجم، وهو ما يحول بين المترجم والترجمة الصحيحة، والترجمة الدقيقة للشعر سوف تتحول تلقائيًّا إلى ترجمة حرفية تفقد النص تمامًا قدرته على إنتاج المعنى، وإذا اتجه المترجم إلى ترجمة المعنى، فقد النص كل خواصه الشعرية، وترجمة النص الأكثر حداثة يكون أكثر صعوبة لأن هذا الشعر مليء بالغموض والرموز والإسقاط والفجوات الصياغية والدلالية، وهو ما يجعل الترجمة نوعًا من التخمين الذي قد يصيب وقد يخيب، والخيبة هي الغالبة، أيضًا إيقاعية الشعر العربي سوف تغيب عند الترجمة، فتتحول إلى ترجمة نثرية خالصة. وقد تابع د. عبد المطلب بعض الترجمات التي لاحقت الشعر العربي فلم يجد إلا نثرًا خالصًا، ومن واقع مشاهداته وزياراته لباريس وجد أن ترجمة الشعر العربي إلى الفرنسية محدودة جدًّا لا تزيد على عشر أو خمس عشرة نسخة لتكون في أيدي الطلبة الذين يدرسون اللغة العربية، وليس لها أي وجود خارج الجامعة، ويوضح أن ادعاء الترجمة ادعاء غير دقيق، وإنما هو نوع من إشباع الذاتية وسعيها للشهرة، حتى لو كانت شهرة خادعة. وينتقل الناقد من خداع الترجمة إلى تسليع الدواوين الشعرية (أي تحويلها إلى سلعة) تحت عنوان زائف هو "حفلات التوقيع" وقد لاحظ أن هذه الظاهرة التجارية انتشرت على نحو لافت في عام 2018 ومن توابعها ما تزعمه دور النشر من تعدد الطبعات، ومن مقولة "الأكثر مبيعًا". أخيرًا يتساءل د. محمد عبد المطلب عن مستقبل الشعر العربي، ويرى أن الإجابة عن هذا السؤال تكاد تكون مستحيلة، لأن الشعر ليس ظاهرة طبيعية أو واقعة عملية يمكن التنبؤ بما تأتي به الطبيعة، وإذا كانت القصيدة الرقمية هي آخر تحولات الشعرية العربية فإنه آخر مفتوح على تحولات قادمة لا يمكن التنبؤ بها. غير أنه لاحظ من خلال مشاركاته في تحكيم بعض المسابقات الشعرية في مصر والعالم العربي، أن هناك ميلًا عند الكثيرين من المتسابقين إلى العودة للعمودية، فهل يمكن القول إن الشعر العربي سوف يتحرك في تطوره حركة دائرية، تبدأ من العمودية لتعود إليها، ثم تبدأ بعدها مراحل تطورية أخرى؟