باتت الأعمال الفنية المعاصرة صنيعة وسائل ووسائط تجعلها قابلة لإعادة الإنتاج، من خلال الصور ومقاطع الفيديو والأقراص المدمجة والبرامج الحاسوبية. أما داخل المغرب فقد تزامن هذا أيضا مع تلك البدايات الأولى لدخول الفضائيات والانتشار التلفاز والإنترنت والحواسيب وثورتها الرقمية، خاصة ما بعد سنة 1996، فبدأت تتحقق في المغرب، والبلدان العربية، نوعا ما تلك المقولة الشهيرة لمارسيل ديشومب، «كل شيء فن ولا شيء فن». المأزق الحداثي سعى الفن بولوجه إلى الرقمنة والعالم الافتراضي إلى البحث عن متلقين جدد، وجماهيرية أوسع والكثير من التحرر. قبل ذلك داخل الحقل الفني المغربي دخل إلى عالم الاقتناء أطباء ومهندسون ومغاربة قادمون من أوروبا، فعلى العموم طبقة وسطى كان أبناؤها يتباهون في ما بينهم باقتناء العمل الفني. ولعل هذه السمة كانت تشمل جل بلدان العالم العربي. فلم تكن وزارة الثقافة ولا السلطات العمومية تقتني الأعمال الفنية سيرا على نهج الدول التي سبقتنا في هذا المجال، لذا بقي الفنان مرتبطا بالسوق الفردية وببعض المؤسسات المالية الخاصة. كان من اللازم إذن أن يواجه الفنان المجتمع وحده وأن يُحاول المتلقي الذي يفهم معنى عمله الذي يريد أن يوجهه للمجتمع. وحتى بعض المثقفين المدافعين عن الحداثة والذين كان من المفروض فيهم أن يُدافعوا عن هؤلاء الفنّانين الذين يُناضلون من أجل تأسيس فن مغربي حديث، كانوا يطالبون الفنانين، باسم التاريخانية، باستيعاب قواعد الحداثة الأوروبية أولا، قبل الوصول إلى ما كانوا يقترحونه من أعمال موليم العروسي .. الفن التشكيلي في المملكة المغربية كما يشير العروسي في هذا الصدد، إلى فكرة المؤرخ عبد الله العروي حول الفن المغربي. وبعيدا عن هذه التاريخانية، التي ترى في الفن توثيقا أو أداة توثيقية لا غير، فقد ولجنا فعلا زمن الرقمنة والفن الرقمي، ولو على قلة الفنانين العرب والمغاربة الذي يشتغلون في هذا النطاق، ما استدعى معه ظهور أسماء جديدة، أسماء شابة وذات طموح عالٍ في البحث عن بدائل الاشتغال الجمالي. رشيد أوحمو الفنان البصري رشيد أوحمو أحد هذه الأسماء، إذ يشق طريقه في صمت وعلى صعيد عال من البحث والتنقيب. بعد أولى مشاركاته الفنية، يسعى هذا الفنان كما يقول إلى «إعادة طرح سؤال الجمال والجمالية على نفسي، غاية في البحث عن توليفات وأساليب تعبيرية متجددة تنبع من الاشتغال المعاصر والمابعد حداثي». الرقمنة وأزمة التراث إن ولوج الفن المعاصر أو المابعد حداثي إلى الرقمنة كان في سياق ما يسمى ب«أزمة الفن المعاصر» هذه الأزمة الشبيهة ب«أزمة الديمقراطية» حيث لا تتحقق الديمقراطية إلا باعتبار نفسها في أزمة أي في نقصان، فالفن المعاصر يهاب الاكتمال لهذا يبحث لنفسه عن أشكال متغايرة ومتنوعة وتجاوزات متعددة ولامتناهية. فلا يتحقق الفن مع المعاصر إلا باستيعاب معنى التأزم. التأزم ما أدركه فنانون مغاربة منذ التسعينيات بالخصوص، إذ زامنوا التغيرات الكبرى في العالم من انهيار جدار برلين وظهور القطبية الرأسمالية الواحدة والسوق الحرة، فبات الفنان ملزما بالبحث عن آليات تعبيرية جديدة وتسويقية للعمل، خاصة وقد صارت التنافسية مبتعدة على ما هو سياسي وبات الفنان غير ملزم بالانخراط السياسي والحزبي وغيره، بل بات ملتزما بفنه وبتسويقه، فصرنا أمام الفنان المؤسسة الذي يشتغل معه عمال وإدارات ومسؤولون وممولون ومسوقون. من هذا المنطلق، من التأزم بالتحديد يمكن أن نقول إن أعمال أوحمو عند نقطة المُنطلق والمنعرج الأول نحو البحث عن الذات في الساحة التشكيلية والبصرية المغربية، أعمال تجيب عن سؤال التأزم من الناحية الهوياتية والتراثية والحداثية، إنه «سؤال الزمن» أو «العودة بالزمن» كما يُعرب الفنان عينه. فهذا السؤال أساسه الفلسفي ينبني على رؤية تعالج أطروحة التراث وملحاحية الإجابة عن الإشكالات المتعلقة به. فهل نحن ملزمون بالعودة إليه واستدماجه؟ أم إننا لا بد وأن نحدث معه قطعا مبرما وأكيدا؟ أم إن الأمر يتعلق بضرورة فهمه واستيعابه ومحبته قبل القفز عن أسواره العتيدة؟ مساءلة التراث فإن كان التراث يسكننا ويطاردنا، ما يستدعي معه من ضرورة المساءلة لا القطع، هذه المساءلة قوامها عند أوحمو يستند إلى البعد الاستتيقي المعاصر، المتعلق بإعادة الاعتبار للتراث والانتصار للمعاصر في الآن نفسه. ولأنه في عالم الفن الرقمي فعدة هذه الفن التي ينهض عليها هي الوصلة، ما من شيء في الشبكة لا يوجد له وسيط أو وُصل. كل ما يًرقْمن يوصل أو تكون له وُصْلات، أما والأمر يتعلق بالفن الرقمي، فأمام الفنان الرقمي مَا لا يحصر له من الوُصلات التي تتحول على يد الفنان من وصلات بيانية إلى وصلات تشكيلية. هذه الوصلات هي منطلق الفنان البصري رشيد أوحمو لتركيب «قصصه القصيرة جدا»، فهو يسجل لحظة زمنية مخطوفة سريعا، عبر رسوماته الديجيتالية التي يمزج فيها بين سؤال التراث وإشكالية المعاصرة، إذ استطاع أن يؤلف مجموعة صور ومضية تعالج هذا الطرح، كما هو الحال في عمله البصري الرقمي لتلك «السيدة» الممتطية لدراجة هوائية، وهي في وضعية مرحة ومرتاحة تملأها البهجة. فما الذي يقدمه لنا رشيد هنا؟ إنه التداخل بين الماضي والحاضر، بين الآن وما سبق بين الفائت والحي فينا. بين جسد شيخ وروح شاب. إنه يركب التناقضات ليخرج بنتائج خاصة ومبهرة. فكيف يعقل لتلك السيدة المرتدية لملابس تقليدية، ما يفتح التأويل أمام قراءات عدة من بينها «هل هي سيدة عجوز» أم شابة ترتدي تلك الملابس؟ كيف لها أن تركب الدراجة وهي تلقي برجليها إلى الريح وتسير على أرض زلقة بلا خوف وبيد واحدة تقود دراجتها في ثبات. إنه الماضي إذن الذي ما زال يطاردنا ويلبسنا لبوسا معاصرة، إنه ماض يسير على طريق زلقة حتى ننتهي منه، إذ لا بد من أن نستوفيه حق محبته ومعرفته حتى نتخطاه (كما يخبرنا الخطيبي) وهذه المعرفة قائمة على أمرين أساسيين، أمر الاستدماج ونية التخطي والقفز عنه، لأن الروح هي روح الشباب، بالإضافة لطرحه مجموعة من القضايا السياسية الراهنة والمتعلقة بالتغير السياسي المغربي والعربي، وبمآلات الثورات العربية والسياسات القائمة، كما الأطاريح الاجتماعية والحقوقية، وذلك داخل قالب تشكيلي/بصري ورقمي ذي بعد يقارب الكاريكاتير والرسومات الساخرة، إلا أنه يعالجها بلمسات فنية تتخذ طابعها المعاصر من عدم البحث عن الدقة والكمال، وترك المتلقي مجالا أوسع للتأويل والمناقشة والتحليل البعيد عن الأحكام المطلقة.