"إن القوة السحرية للأدب تكمن في أننا يجب أن نتحلى بالمقدرة على التعبير بصورة مستمرة عن أفكارنا تجاه العالم من جديد، وتقصي الحقائق الجديدة في الحياة" ربما كانت هذه العبارة بالغة الأهمية مفتتحًا كاشفًا حين نلج في مضمار رصد العلاقة بين الأدب وإعادة اكتشاف الحياة من خلال نسق سردي يضمن لها الالتفاف والتبلور والتجسد من خلال آليات تعتمدها الكتابة وتؤكد عليها عبر مستويات استغراقها فيما يدور من فعاليات الحياة ذاتها، ربما لإعادة إنتاج الواقع أو وضعه في هذه الهالة من القدسية أو نزعها عنه، أو وضعه في حالة أسطورية قد تفرضها أنساق الكتابة الروائية التي لا تسجل بقدر ما تحدد كل السمات والظواهر المصاحبة لهذا الوجود الإنساني المفارق في كثير من أحواله التي ربما تنهض على الإتيان بغير المعتاد أو الخارق لقوانين البيئة، المحتضنة لهذا المتن الواقعي الذي ينقله السرد بدوره إلى متنه الروائي، وهو ما يدفع دومًا إلى محاولة سبر غور الحقيقة أو المعادلة التي تتزن بها أطراف الحياة من خلال جملة التفاعلات والتناقضات والعوائق التي تكتنف هذا النسيج الحيوي المراد تأطيره وتثبيته تبعًا لمصادره التي ربما اعتمدت على التراث الإنساني والوعي به من خلال وعي آخر قد يتناوب بين الشفاهي المنقول، والمتوارث بالرؤية والمعاصرة، لتأكيد أو نزع هذه الحالة الأسطورية التي تعود حتما في نهاياتها كما في بدايتها إلى أرض الواقع الإنساني الذي يثبت الحقائق الخاصة بالوجود، لتبقى.. ذلك مما يُعد ولوجًا منطقيًّا إلى أجواء رواية "سيرة الناطوري" التي تلج تلك البيئة المحملة بالتراث الحكائي، والمشبعة بالمد الروحاني الشفيف، مختلطًا بغبار الأرض وطينتها التي تمثل عصب الواقع/ الحياة في الجنوب/ الصعيد، بكل ما تحمله الحياة هناك من تقاليد خاصة وطقوس ومتناقضات وسقوط في وهدة المسكوت عنه، واحتواء المزيد من عناصر الالتحام ببنية الأسطورة التي تمتح من محددات المكان ودواله واشتعاله بالتناقض بين فئاته في الداخل، وعلى مستوى القشرة الخارجية ومظاهرها من خلال السيرة أو الحكايات التي تتواتر وتتناثر ثم تجتمع لتحاول وضع إطار كبير لتلك الحالة من الأسطرة على مستويي الكتابة والواقع المستمدة منه.. فالصوت/ الراوي التي يشعل حمى البداية السردية هو ذاك الشاب/ الطفل المعاصر، الشاهد المنقسم بين ما يختزنه وعيه البصري وما يعمل البحث فيه عن تلك الحقائق المؤجلة الظهور والتكشف، التي يستهل بها الراوي روايته بالمشهدية التي تلتحم مع ما تطمح إليه ذاته نحو الكشف والتقصي ومحاولة سبر الحالة المفارقة.. "كالشمس التي ترسل ضوءها الفاضح، فتحدد المرئيات، ويرتدي كل معلم ثوبه ولونه، بدأت رحلتي الملحة، بعد زمن قلت فيه: ليس أوانه" ص7 فهنا يتحدد الزمن الروائي بزمن رحلة البحث والتقصي التي يعتمد عليها العمل الروائي/ الراوي الرئيس، والذي يلتحم بمفهوم الزمن السردي لأحداث المروية المتواترة، على اعتبار أن "الرواية هي فن الزمن، مثلها مثل الموسيقى، وذلك بالقياس إلى فنون الحيز كالرسم والنقش" فهو مرتكز من مرتكزات العمل الروائي التي يتخذ عنوانه/ مفتاحه الأول وعتبته، جانب السيرة/ الترجمة الذاتية، التي تبدو هنا بتقنية مختلفة، حيث تأتي أطراف هذه السيرة التي تلتف حول رمز إنساني واحد هو "الناطوري" جد الراوي الذي يمثل جذرًا حقيقيًّا ماديًّا ومعنويًّا لهذه البيئة المعجونة بميراثها الإنساني، من خلال أحواله وكراماته التي يبرزها الحكي، من خلال تلك الشخصيات الرئيسة والمساعدة التي تتواتر على السرد لتحكي وتشتبك معه، وتختزل الزمن في صورة هذا الحكي المتواتر، الملتبس بالغموض؛ فهي الشخصيات الملتصقة بالبيئة والدائرة في فلك تلك الشخصية الأسطورية الغامضة، فتأتي العلاقات بين الشخوص ذاتها من حيث ظهورها واختفائها في تبادلية سردية تأخذ شكل الكراسي الموسيقية، بحيث تتوالى في اتجاهين متوازيين: أحدهما الشخصيات الذكورية، والآخر الشخصيات النسائية التي تتمركز فيها شخصية "سُكَّرة" أيقونة النص الروائي ومحركه الرئيس في طريق الكشف والتقصي (والدة الراوي، وابنة الجد الأكبر الناطوري وامتدادها في ابنتها جيهان)، وما بينهما شخصية "ياقوتة" تلك الأيقونة الأخرى الموازية التي تتناثر في النص لتضع حدًّا بين الواقع والمشتهى حدوثه.. وما بين الخطين يقف السارد الرئيس مؤسسًا ورابطًا لكل تلك الإحداثيات والاشتباكات السردية.. تلك العلاقات التي تتراكم لتعطي نسيجًا حيويًّا ينشغل به وعي الراوي إلى جانب انشغاله بهذا المد الأسطوري الذي يأتي به الحديث دومًا عن شخصية الجد الغامضة، ذلك الغموض الرامز إلى قوة خفية قد تلتحف بالصوفي والواقعي تجاورًا مع ملامح إيروسية قد تلتحم بالواقع من خلال مفردات وجود ودلالات عينية ورمزية تعمل على إماطة اللثام عن الكثير من المسكوت عنه في هذا الفضاء المترع بالغموض والانغماس في الرغبة الخفية في الكشف والكتمان معًا، تلك الرغبة التي تحرك السرد بوعيه الطفولي الكاشف وبراءة ذلك الكشف من خلال سلوكه وارتباطه بأمه تلك التي يرمز بها النص الروائي إلى الأرض أو الأصالة: "كانت العيون المُحدِّقة مفتوحة عن آخرها، غير مصدقة أن التي أمامهم سُكَّرة بشحمها ولحمها، بنت الناطوري، التي لم يستطع ابن عمها أن يأخذها من فوق ظهر الفرس، يوم أن جُهزت لأحد أبناء القرارية" ص13 تطل هنا السمات المتوارثة التي يتكئ عليها السرد من خلال تلك الشخصية النسائية والتي تساهم في تشكيل الوعي من خلال فعلها التراكمي الذي أحدث هذه الروح المتشبعة بالصراع والعناد وتأصيل عمليه التقصي والبحث في ذات السارد الرئيس، عن فك شيفرة هذا اللغز الغامض من التاريخ والموروث، ذلك البحث الذي يأخذ في طريقه كل هذه الشخوص ليستخلص من كل منهم جانبًا مهمًّا من جوانب تلك الشخصية لفك غموضها وإحداث هذا اللبس المتعمد، وما يمكن أن نسميه متاهة سردية تتوازى مع متاهة الواقع والتاريخ والموروث.