غالبا ما ينظر إلى الهندسة المعمارية باعتبارها فنا ذكوريا، في مختلف الثقافات والحضارات؛ لكن ذلك لم يمنع المرأة من اقتحامه، ولئن يسجل التاريخ أسماء نسائية لامعة في هذا الفن بدءا من كاثرين بريزونت (1492-1526) التي وضعت لمساتها في تصميم قلعة تشينونسيو الفرنسية وماري تاونلي (1753–1839) وهي من أوائل المعماريات البريطانيات وإيملي روبلينغ (1843–1903) التي نحتت اسمها على جسر بروكلين الشهير، ولويز بلانشارد بيتون (1856-1913) أول مهندسة معمارية أميركية محترفة، وصولا إلى زها حديد (1950 – 2016) رائدة الفن المعماري الحديث عربيا وعالميا التي بينت أن “الهندسة المعمارية ليست فنا للرجال فقط”، وأضحت النموذج الذي تحتذي به معماريات عربيات شابات على غرار المصرية داليا السعدني، التي فازت بالمركز الثاني عشر في الترتيب العالمي للمهندسين المعماريين. اختارت المهندسة المعمارية ابنة محافظة الإسكندرية الساحلية، داليا السعدني، التي صنفت ضمن أشهر 100 مهندس في العالم باحتلالها المركز ال72 في عام 2013، ثم ارتقى هذا الترتيب تدريجيا حتى وصلت إلى المركز الثاني عشر عالميا في العام الماضي، أن تسير على درب زها حديد في خطى ملموسة ومتدرجة. ونجحت السعدني في جذب أنظار العالم لقدرتها على المزج بين التراث والمعاصرة، ما ساعدها على التميز في خلق حالة إبداعية، وحصد 12 جائزة عالمية في الأعوام الأربعة الأخيرة، بينها جائزة لتصميم منضدة على هيئة “وابور الغاز” (الذي كان وسيلة المصريين منذ عقود لإشعال النار). اختارت داليا السعدني، في حديثها :أن تثني على الإمارات العربية المتحدة التي قالت إنها كانت أيقونة الانفتاح في العالم العربي والباب الذي فتح المجال أمام الإبداعات المعمارية العربية والعالمية، خصوصا النسائية. وبينت أن القفزة التي شهدتها الإمارات دفعت البلدان العربية إلى السير على خطاها، ما فتح المجال أمام حركة معمارية من الجنسين، وإن كانت الفرصة أكبر أمام المعماريات. كما قالت إن هذا الانفتاح لم يكن فقط على مستوى النظرة العربية للطرز المعمارية الحديثة بل أيضا على مستوى نظرة المجتمع الخليجي للمرأة ووعيه بضرورة مشاركتها في إحداث النهضة المجتمعية. وبينما يبدي الواقع تحركا بطيئا لدور المرأة العربية في الشراكة النهضوية، إلا أن السعدني ترى، من خلال جولاتها الخليجية للمشاركة في لجان التحكيم لجوائز في الهندسة المعمارية، أن طبوغرافية العالم العربي تغيرت كثيرا. ورصدت واقع الخليج الذي يزخر بمهندسات معماريات استطعن أن يتركن بصماتهن في الكثير من الأعمال المعمارية والتصاميم على المستويين المحلي والدولي، لا سيما في الإمارات والسعودية والكويت والبحرين. المعماريون الشباب تتوقع السعدني أن تشهد الأعوام المقبلة المزيد من النجاحات التي ستحققها المرأة في هذا العالم الإبداعي، لتضيف أسماء نسائية جديدة إلى جانب اسم زها حديد لترفد سجل الهندسة المعمارية العربية وتضيف على إبداعات وأعمال معماريين من قبيل المصري حسن فتحي والعراقي محمد صالح مكية والفلسطيني راسم بدران وغيرهم، فحينما يرد ذكر الهندسة المعمارية في أي حديث أو نقاش تقفز إلى الذهن على الفور تلك الأسماء. وهنالك أسماء لم تسلط عليها آلة الإعلام أضواءها رغم نجاحاتها محليا ودوليا، على حد وصف السعدني، وأبرزها محسن زهران، الاستشاري السابق للأمم المتحدة، والذي يلقبونه ب”الأب الروحي للمعماريين في الإسكندرية”، وهو ما تخشى أن يتكرر مع المعماريين الشباب، في وقت حصد فيه عدد منهم جوائز عالمية ولم يعلم عنهم أحد شيئا. وعندما أتى الحوار على ذكر الشباب تأسفت المعمارية العربية على ما وصلت إليه الأمور الآن، وقالت “إن البطالة شبح يحاصر المعماريين المصريين منذ تسعينات القرن الماضي”، ومنذ بروز فكرة “الكومباوند” (التجمع السكني) الذي يحتاج تصميمه إلى معماري واحد، وتراجع أعداد المشروعات العامة التي تنفذها الدولة، ودفع هذا الأمر الكثير من المعماريين الشباب إلى ترك اختصاصهم واتجهوا إلى مجالات أخرى. ولفتت داليا السعدني إلى أنه في الوقت الذي يتقدم فيه تصنيف مصر دوليا في مجال العمارة، نجدها تلجأ إلى الاستعانة بخبراء أجانب لتنفيذ مشروعاتها، وقالت إنه في وقت سابق، استعانت الحكومة المصرية بالمعمارية العراقية الراحلة زها حديد لتنفيذ قاعة مؤتمرات كبرى، إلا أن المشروع توقف لأسباب غير معلنة، ومنذ أيام استعانت بالمعماري العالمي نورمان فاستر لتصميم وتطوير منطقة مثلث ماسبيرو (وسط القاهرة). وقالت السعدني إن “أحد الطلاب المصريين، في مشروعات التخرج، كان يعمل على تصميم منطقة مثلث ماسبيرو، وكان تصميمه أفضل من التصميم الذي قدمه نورمان فاستر”. واستنكرت تجاهل الدولة لأبنائها، ما دفعها إلى المطالبة، في لحظة غضب، بإغلاق أقسام العمارة في الجامعات المصرية، لأن مصير هؤلاء المعماريين الخريجين، سيكون الارتكان إلى حوائط منازلهم. قالت داليا السعدني إن العمارة تعرّف بأنها “فن صناعة المستحيل” نظرا لأنها تتطلب التوفيق بين الأطروحات والثقافات المتنوعة في العالم، والانفتاح الذهني المتجدد على المفاهيم والأفكار المختلفة، ولهذا فالعمارة تستلزم قدرة كبيرة على قراءة المجتمعات والنظر إليها من أعلى إلى أسفل وصولا إلى إيجاد حالة من الرضا المجتمعي العام. ونجحت عمارة ما بعد الحداثة في إنتاج أطر معمارية يتداخل فيها الفكر مع الثقافات، وذلك ضمن عمل واحد متجانس، فكان لها السبق في خطف الأنظار وإبهار المجتمعات بتصاميم يلعب الخيال فيها دورا كبيرا. والعمارة فن ارتبط بالابتكار والخلق، وإن اختلفت طبيعة التصاميم مع تغير الأزمنة وتنوع الثقافات، وهي جزء من الإنسان فلا تكاد تبتعد عن تكوينه أو واقع حياته أو البيئة التي يعيش فيها، ومن ثم تأتي تصاميمها لتعكس تلك البيئة، وهذا الواقع. إنها ذلك الفن، الذي تكون المادة ركيزته للخلق، والخيال وسيلته للإبداع. وارتبط هذا الفن أكثر بالدول التي تتمتع بحضارات قديمة نجح قدماؤها في إبراز هويتهم وعقائدهم، ومن ثم فهو أصدق تعبير عن “التراث الإنساني”، ولهذا نجد المعماريين المحدثين حريصين دائما على الجمع بين التراث والحداثة. وتتمتع الكثير من بلدان العالم بتلك النوعية من التصاميم الفريدة، التي تميزها عن غيرها، فتحولت إلى مزارات سياحية رائجة، تدر دخلا هائلا، وتجتذب الملايين من السائحين من مختلف البلدان، وانتقلت تلك التصاميم تدريجيا، من دول أوروبا مع بدايات عصر النهضة، إلى دول القارتين الأميركيتين، مرورا ببلدان آسيا، ثم تحركت ببطء إلى بلداننا العربية، وهنا تبدو تجربة الإمارات العربية المتحدة سباقة في هذا الشأن. أشارت السعدني إلى أن أغلب التصاميم منذ عقود، يغلب عليها نمط “الديونستركشن”، أو التفكيكية، والذي يطلق عليه رائدو هذا الفن، “عمارة الديكو”، ويلجأ هذا النوع من التصاميم إلى التلاعب بالأسطح الخارجية، ويبرز ذلك جليا في تصاميم الكندي فرانك جيري، أهم معماري في هذا العصر (وفق تصنيف مجلة فانيتي فير)، والفرنسي جين نوفل والسويسري بترتو، علاوة على العراقية الراحلة زها حديد. لكن، وفق السعدني، رغم رواج هذا النمط المعماري، إلا أن ثمة هجوما دائما عليه، نظرا لأنه يقوم على مبدأ الثورة على التراث ومخالفة القواعد الكلاسيكية، كما أنه لا يهتم بالقياسات البشرية ورغبات الناس العاديين، وهو ما قد يدفع إلى طمس هوية المجتمعات وحضارات الدول وتاريخها. وأوضحت أن مدرسة المزج بين الطرز المعمارية لاقت رواجا كبيرا وقبولا عالميا، لأنها تتناسب مع الحداثة ورغبة الشباب الثائر على تقليدية المجتمعات من جانب والحفاظ على تقاليد وهوية البلدان من جانب آخر. وكان ذلك وراء اختيارها إيطاليا لاستكمال دراستها، بعد انتهائها من دراستها الجامعية بالإسكندرية، لأن إيطاليا من أبرز الدول الداعمة والسباقة في التصاميم، وأيضا لأن طابعها المعماري موحد ومفروض على الجميع، ومازالت تحتفظ بتراثها وحضارتها وطرزها المعمارية التاريخية، على عكس دول كثيرة أبرزها مصر، التي انفلتت فيها الأمور، فلم تحافظ على بناياتها التاريخية، وبالتالي تغلغلت العشوائية في العمارة المصرية الحديثة وشوهت المنظر الحضاري الذي تميزت به عواصمها على مر العصور، وهو ما يتجلى في مدن كالقاهرةوالإسكندرية والجيزة. ولفتت السعدني إلى أن مصر تستحوذ على أشهر البنايات التاريخية التي دخل البعض منها ضمن عجائب الدنيا، ما يعكس قدم العمارة فيها، حيث وقف العالم مبهورا أمام الهرم الأكبر بالجيزة، وأيضا منارة الإسكندرية، وتتحسر على أنه في الوقت الذي تحتفل فيه دول عربية وغربية بعمارتها الحديثة فإن أحفاد الفراعنة يجترئون الآن على مكتسبات أجدادهم، فلا عمارة حديثة أقاموا، ولا على مقدرات حضارتهم القديمة حافظوا. طمس للحضارة من بين أشهر الطرز المعمارية الحديثة في العالم تتقدم دولتا الإمارات (برجا خليفة وأنارا بدبي) والبحرين (أبراج كوبرا) عربيا، بينما عالميا تطفو على السطح حدائق الخليج بسنغافورة، ودار الأوبرا بمدينة سيدني، ومبنى لويدز بلندن، وفوتور سكوب بفرنسا، ومبنى لوتس في الصين، وأبراج بتروناس بماليزيا، وغيرها من البنايات التي عكست طابعا حضاريا لبلدانها. وأردفت السعدني أن الدول التي ليست لديها حضارة تقوم بصناعة حضارة لها، ونحن في مصر نطمس حضارتنا بأيدينا، وعدم الحفاظ عليها سيجعلنا الخاسر الأكبر، لأن الحضارة مصدر دخل رئيس، لا سيما على مستوى السياحة التي تستحوذ فيها الآثار الفرعونية والإسلامية والأبنية التراثية على النسبة الغفيرة منها وهي القبلة الأولى للأجانب، ويجب على الدولة اتباع سياسة التوسع الأفقي للمدن، كما فعلت دبي وسنغافورة للخلاص من عشوائية المعمار التي تسيطر على الكثير من المدن المصرية، وتطبيق “كود” الزلازل بشكل صحيح للحفاظ على البنايات حيث أن الكثير من العقارات مهددة الآن بالانهيار في مصر. وصنفت مؤسسة أي ديزاين الإيطالية (المصنفة الأولى عالميا في مجال التصميم) المهندسة المعمارية داليا السعدني، كأحد أشهر 100 معماري في العالم. وحصلت على اثنتي عشرة جائزة عالمية، بينها الجائزة البلاتينية لتصميم ميدان التحرير (الواقع وسط القاهرة). لم تسلم السعدني من انتقادات الأصوليين الإسلاميين وقت ترشيحها لتولي حقيبة وزارة البحث العلمي في مصر عام 2013 ووصفوها ب”المتحررة”، وهي تأمل أن تندثر تلك النوعية من الأفكار المتشددة. وقالت السعدني إنها تعمل منذ خمسة أعوام على محاربة هذه الأفكار، وتزور الجامعات لتحفيز الطالبات على تحقيق أهدافهن، بغض النظر عن تبعات النظرات المجتمعية لمجالات تختزلها في الرجل فقط، ودعم المرأة من الناحية الإبداعية. وطالبت بتغيير القوانين التي تميز الرجل عن المرأة في بيئات العمل، وفتح المجال أمامها للانطلاق، وتوسيع دائرة الدور السياسي لها. وتعكف السعدني حاليا على تنفيذ مشروعين؛ أحدهما يتعلق بتصاميم المنشآت التعليمية بما يتناسب وسيكولوجية الطلاب، والآخر حول “وجه مصر”، وهو مشروع إصلاحي يتسق ومعالجة كافة المشكلات التي تعاني منها الدولة المصرية. واختتمت حوارها بأنها تتمنى أن يخلد اسمها على أحد المشروعات الوطنية، حتى تنضم إلى قوائم المبدعين الذين أثروا الحياة الثقافية والفنية، “لكن يبدو أن المرأة العربية، تحتاج إلى وقت طويل، حتى يتسنى لها الخلاص من أفكار لا تزال عالقة في أذهان البعض رغم أن الزمن عفى عليها”.