بعد مرور ما يقرب من 400 سنة ما فتئ الرّسام التشكيلي الإشبيلي الباروكي دييغو فيلاسكيث يثير انتباه النقاد والباحثين والمتخصّصين في تاريخ الفن الإسباني على امتداد العصور، هذا ما يسعى لتأكيده المعرض الذي افتتح في إشبيلية مؤخّراً لهذا الفنان، إلى جانب قامة فنيّة أخرى وهو الرّسام المعروف بارتولومي إستيبان موريُّيو، المولود عام 1617 أيّ بعد رحيل فيلاسكيث ب17 عاماً الذي توفي عام 1660. في السنة نفسها أسّس مُوريُّيو أكاديمية الرّسم لمدينة إشبيلية، ولم يكن يتجاوز الثامنة عشرة ربيعاً من عمره. الرسّامان الإشبيليّان يُعتبران من عباقرة الفن الباروكي الإسباني، كما يصنّفهما النقد الفنّي كنجميْن ساطعيْن في سماء القرن الذهبيّ للفنّ الإسباني في أعلى مراتبه (السّابع عشر). المعرض الذي جمعهما انطلق أواسط شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وسيظلّ مفتوحاً للزوّار وعاشقي الفنّ التشكيلي إلى غاية 28 شباط/فبراير 2017 ويتمّ خلاله عرض 19 لوحة ( 9 لفيلاسكيث و10 لمُورييّو). وقد أسهم في تمويل هذا المعرض العديد من المؤسّسات الفنية الإسبانية كمتحف البرادو، والأجنبية مثل متاحف اللوفر في باريس، وناشيونال غاليري (لندن) وميدوز موزيُوم (دالاس) وفريك كولكشان (نيويورك) فضلاً عن متحف فيينّا وسواه من المؤسسات الأخرى التي تُعنى بالفنون. بين فيلاسكيث ومُوريُيّو أنتج دييغو دي فيلاسكيث في حياته حوالي 130 لوحة تعتبر من أروع ما خلفه لنا الفنّ التشكيلي الإسباني في القرن (17) عاش ورسم في إشبيلية من 1618 إلى 1623 وبعد ذلك انتقل إلى البلاط الملكي الإسباني في مدريد واستقرّ فيها. تتلمذ على يد فرانسيسكو باشيكو الذي أصبح حماه في ما بعد، رسم العاهل الإسباني فيليبي الرابع عشر، والبابا إينوسينسيُو العاشر، وبعض الأمراء والأميرات والنبلاء وآلهة الإغريق القديمة، والأساطير والتاريخ . اتّسم رسمُه بالأسلوب التقليدي الكلاسيكي، وكانت لوحاته رصينة، وفضفاضة، وتتميّز بالدقة والأناقة في استخدامه للألوان بمهارة فائقة، حقق نجاحات باهرة في هذه المجالات جميعها، وخلال إحدى الرّحلات الملكية أصيب بوباء الجدري حيث توفي على إثره. فيلاسكيث المفقود وموازاة مع هذا المعرض صدر في مدريد عن دار النشر الإسبانية ( تاورُوس) كتاب بعنوان: «فيلاسكيز المفقود» بقلم البريطانية لاورا كومينغ (الناقدة الفنية في «دي أفسيرفر») بعد صدوره مؤخراً في بريطانيا، ويعالج الكتاب قصّة اللوحة الشّهيرة التي رسمها فيلاسكيث للأمير الإنكليزي شارلز نجل العاهل البريطاني جيمس الاّوّل خلال الزيارة التي قام بها هذا الأخير لإسبانيا عام 1623، وكان الهدف منها زواج ابنه من الأميرة «أنا» أخت الملك فيليبي الرّابع، كان فيلاسكيث حديثَ العهد بالوصول إلى البلاط الإسباني، ولابدّ أنّه تصادف مع الأمير الإنكليزي هناك، إلاّ أنّ هذه اللوحة ضاعت ولم يعثر لها على أثر، وتعتقد الكاتبة أنها كانت توجد لدى كُتبي إنكليزي يُسمىّ جون سنار. وعندما سُئلت الكاتبة عن فحوى كتابها أشارت إلى أنها ليست مؤرّخة للفنون، وكتابها ليس سيرة ذاتية عن فيلاسكيث، وإنما هي تقتفي فيه أثر كتْبي وهوسَه من أجل رسّام كبير ولوحة فنية مفقودة. وقالت الكاتبة إنّ كلّ ما جاء في كتابها هو حقيقي، ولا يمتّ إلى الخيال بصلة، ويخبرنا الكتبي جون سنار أنّ لوحة فيلاسكيث هي لأمير شاب إنكليزي بلحية خفيفة، وهو يرتدي الدّروع، ويُشهِر سيفه. وإنه من الصعوبة بمكان التأكّد ما إذا كانت هذه اللوحة أصلية أم لا؟ حيث لا تظهر اللوحة في مروياته، وقالت الكاتبة إنها قرأت ما ينيف على مئة مقال حول هذه اللوحة، مثل رسائل أناس رأوها، فضلاً عمّا نشره جون سنار حولها، وهذه اللوحة رُسمت في زمنٍ لم يكن أحد يعرف شيئاً عن الفنّ، أيّ في زمنٍ لم تكن قد ظهرت فيه المتاحف بعد، وتثبت المؤلفة في كتابها سجلّ تسديد ثمن اللوحة في الوثائق البريطانية حيث دُفع لفيلاسكيث عنها مبلغ 1.100 ريال بتاريخ 8 سبتمبر/أيلول 1623. رسّام الرسّامين سرّ فيلاسكيث يكمن في كونه رسّاماً قديماً ولكنّه يظلّ جديداً باستمرار، وهذا ما حدا بالرسّام الفرنسي إدوارد مُونييه إلى أن يطلق عليه لقب «رسّام الرسّامين»، بل إنّ لوحات فيلاسكيث هي بمثابة ألغاز محيّرة أو حكايات لها مداخل وتشعّبات وأبعاد متباينة عميقة. ما زال في نظر النقّاد حيّاً مشعّاً في لوحاته، فجميع أعماله تتّسم بقوّة الخلق، وزخم الوجود، وصخب العبقرية، سواء في شبابه في حاضرة المعتمد بن عبّاد في إشبيلية حيث تفتّقت ينابيع إبداعه، أو خلال وجوده في مدريدمسقط رأس أبي القاسم المجريطي. وإنّ كل لوحة من لوحاته هي عالم قائم الذات، ليس له أعمال بسيطة أو متوسّطة بل إنّ جميع أعماله تتميّز بالرّوعة، عاش حياة البذخ والرّخاء في القصور محاطاً بهالة من السّلطة والمجد، ولكنّه غرق كذلك في قاع الحياة اليومية البسيطة للشّعب. قال عنه الناقد خوليان غاييّغُو: «كان وكأنّه يرسم لنفسه ،إنّه لا يفكّر في إقناعنا مثل غُويَا، كما لا يسعى إلى أن يجذبنا مثل روبنز أو يُسحرنا مثل غريكو». فيلاسكيث.. سيرفانتيس التشكيل يشبِّه الكاتب الإسباني خوليان ماريّاس نبوغ فيلاسكيث في الرّسم بنبوغ سيرفانتيس في الكتابة والإبداع الأدبي، فهو الوحيد الذي لا يمكن أن يقارَن بأيّ رسّام آخر في عصره، كما أنّ سيرفانتيس لا يمكن أن يضاهيه كاتب في زمانه. ويتساءل الكاتب: لماذا نركّز نظرَنا ونتأمّل جيّداً في أناس مثل سيرفانتيس، أو فيلاسكيث، أو ديكارت، أو شكسبير، أو ميغيل أنخيل، أو رامبرانت؟ لماذا نركّزالنّظرعلى مثل هؤلاء دون الآخرين الذين عاشوا في عصرهم أو في الأحداث التي مرّت بهم؟ إنّ إسبانيا على عهد فيلاسكيث لم تكن توحي بأنّها قد تعطي رجالاً في مثل هذا المستوى من الشّموخ. فالأوّل (سيرفانتيس) ما انفكّت كتبُه تجوبُ مكتبات العالم، والثاني (فيلاسكيز) ما فتئت لوحاتُه تغزو بدون انقطاع أكبر معارض الدّنيا، آخرها المعرض الحالي الذي يُنظّمُ له ولمورييّو في إشبيلية. إنّ فيلاسكيث مثل سيرفانتيس، كلاهما حريص على اقتناص الواقع وتسجيله، إنهما يتبعانه ويقتفيان آثارَه، إنهما لا يمرّان مرورَ الكرام أمام قزم مهرول، أو قفّاز أو منديل يسقط من يدٍ مُتعبة، أو سهامٍ في اتّجاه السّماء. إنّ فيلاسكيث رسّام تغريه «الحقيقة» ويستحوذ على مشاعره «الواقع»، إنّه الرسّام الذي تمكّن من أسر الجمال داخل لوحة وإنقاذه من الزّوال والتلاشي والفناء، بل إنّه جعل الأجيالَ التي جاءت بعده تستمتع بهذا الجمال كذلك مثلما استمتع به هو ومعاصروه. إنّ إسبانيا في عصره (القرن السابع عشر)، لم تكن تلك التي تصفها لنا كتب التاريخ أو يوميّات الرحّالة، بل إنّ هناك أشياء أخرى كثيرة لم نجدها سوى في لوحات هذا الفنّان. إنّه يمعن التأمّل، ويعمل النّظر في مختلف الأشياء البسيطة للحياة اليومية المتواترة، ففي كثير من رسوماته تظهر صورته صامتاً متأمّلاً محدّقاً في كلّ شيء، كان ذا حيوية فريدة، عاش عصرَه وسجّله وقدّمه لنا في صمت وسكينة وهدوء، لابدّ أنه في عزلة وقف غير ما مرّة ليطبع اعترافاته ومعاناته ومشاعرَه بواسطة ريشته على نسيجه أو كتّانه. قال «غوته» ذات مرّة: «إنّ الذي يوجد داخل المرآة هو كذلك موجود خارجها»، لذا فإنّ الناظر إلى بعض لوحات فيلاسكيث لا يعرف ما إذا كان هو الذي ينظر إلى اللوحة أم اللوحة هي التي تنظر إليه. إنّه ابن الأندلس المُشبع بنسائم الأزهار، والريّاحين، والورود، والياسمين والأضواء والتاريخ المجيد والأساطير، وعليه فقد قيل: «إنّ رسم القرن السّابع عشر يمثّله فيلاسكيث، ورسم التاسع عشر يمثّله غُويَا، ورسم القرن العشرين بِيكاسُو» . الماء والصّمت إن ظهور المرآة في بعض رسومات فيلاسكيث هو ليس من قبيل المصادفة بل لغرض فنّي معيّن، لقد أحصى النقّاد أكثر من عشر مرايا تظهر في رسوماته، ولكن أشهرها هي التي تبدو في لوحة «فينوس والمرآة». كما أنّ رسوماته تحفل بالماء، فعنصر الماء عنده أساسي .ويشير أحد النقاد في كتاب له عن فيلاسكيز وهو «رامون غوميس سيرنا»: إنّ رسوماته تشبه كأساً من الماء الزّلال الصّافي الشفّاف ولابدّ أن المياه النقيّة التي كانت تجري في صهاريج حدائق وقصور المعتمد بن عبّاد بإشبيلية الغنّاء وأحواضها كان لها تأثير عليه « ويقول الباحث الإسباني «لويس روساليس» عن عنصر الماء عند فيلاسكيث: «إنّك عندما تنظر إلى بعض لوحاته تسمع وكأنّ صوتاً ينتهي إليك وهو يقول «أعْطِني قليلاً من العطش، فإنّني أكاد أموت من الماء..!». تحفلُ رسومات فيلاسكيث بالسّخرية الجوّانية، هذه السخرية تظهر مثلاً في رسم نفسه وهو يرسم .وفى إستعمال المرآة، أو في مسألة رسم اللوحة داخل اللوحة. قال عنه المفكّر والفيلسوف الإسباني الكبير خوسّيه أورتيغا إي غاسّيت: «إنه الرسّام الذي إستطاع أن يجعل من الحقيقة أو من الواقع أسطورة». هناك عنصر آخر يطغى على لوحات فيلاسكيث وهو عنصر الصّمت. هذا الصّمت الذي يغلف كثيراً من لوحاته، إنه صمت له معنى، صمت ناطق، صمت بسيط الكلمة، الذي يبدو كصدى عميق لها. صمت الحسناوات داخل فساتينهنّ الفضفاضة المُزركشة بالألوان الوردية والفضيّة وكأنّها أمواج تتسابق . صّمت لوحاته يشبه الضّباب الذي تكاد العينُ تخطئه، الضّباب الدّاني المُسفّ الذي يكادُ يُمسكه مَنْ قام بالرّاح.. !