هل هي مجرد مسافة ما يمكن اختزالها أو تجاوزها ..؟ أم هو مجرد شرخ يمكن ترميمه ..؟ أم هوّة لابد لنا من ردمها ..؟! لنكن أكثر وضوحا ً وصراحة ً مع أنفسنا ؛ ولنعترف بنزاهة أن ثمة غياب حقيقي لدور الشعر في واقعنا العربي المعاصر .. حيث يتيح لنا هذا الاعتراف الشريف القدرة علي إعادة صياغة السؤال ليصبح :ما هي أسباب غياب هذا الدور ؛ وما هي سبل إعادة تفعيلة ؟ الواقع أن هناك جملة من الأسباب ربّما ترتبط جميعها – كما أري – بعلاقة الشاعر بالآخر ؛ بمعني آخر بوضعية الشاعر في السياق الاجتماعي ؛والعودة إلى النزعة الطبيعية والتي كانت نهجاً وسبباً أساسياً لبلورة نحاحات كبيرة لأسماء مثل : أحمد شوقي ؛ حافظ ابراهيم ؛ ومحمود حسن اسماعيل وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة واحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل ومحمود درويش ونزار قباني وغيرهم وغيرهم كثير في عالمنا العربي ؛ وإميل زولا في فرنسا ؛ ودوستوفيسكي ومايكوفيسكي وتولستوي وتشيخوف في روسيا ؛ وإبسن وبيورنسوه واشترندبرج في الدول الاسكندنافية مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .. هذه النزعة التي دعت إلى الاهتمام بالشؤون اليومية ؛ وبما هو في المرتبة الدنيا في المجتمع الانساني ؛ وبما هو غريزي وبما هو جميل وبما هو قبيح .. باختصار نظرت إلى أن الأنسان نتاج للوراثة والبيئة المحيطة به والوضع الاجتماعي والوضع التاريخي . فمثلاً " بدأت النزعة الطبيعية في الأدب الألماني علي يد أرنو هولتس ( 1863 – 1929 ) الذي استهل انتاجه الشعري بديوان صغير عنوانه : كتاب الزمان ؛ سنة 1885 ؛ وفيه تغنى بالمدن الكبرى وما يلاقيه الناس فيها من بؤس وشقاء ؛ بالمستشفيات الحافلة بالمرضى ؛ بالسجون التي يلقى فيها بالأشقياء ؛ وأعلن في هذه القصائد أن قطعة من الزبد أفضل من مسرحية ( فاوست ) لجيته ! ودعا الشعر أن يكون سلاحاً لمحاربة مساوئ التنظيم الاجتماعي الفاسد ؛ وقد نظم هذه القصائد ملتزماً بالوزن والقافية " ( د. عبد الرحمن بدوي – الأدب الألماني في نصف قرن – سلسلة عالم المعرفة 181 - ص 7؛ 8 ) فالقصيدة هي شريحة من الحياة ؛ والعمل الفني هو زاوية من الطبيعة منظور إليها من خلال مزاج – بحسب إميل زولا - .. ولا يعني ذلك أنني أُعلي من التقليد على حساب الابتكار ؛ أو أستغني بالنزعة الطبيعية عن النزعة التعبيرية التي " راحت تستكشف خفايا النفس واللاشعور ؛ والعاطفة ؛ والأنا ؛ والانفعالات الفردية . وتعلقت ب " ألأنا " وجعلت شعارها هو : ما ليس الأنا مباشرةً هو ليس بشئ ؛ وتغلبت عليها النزعة إلى اللامعقول ؛ وإلى التناقض " ( نفسه ص 11 ) أو النزعة الرمزية أو الصوفية التي تكاد تقطع علاقة الفن الشعري عن المجتمع وقضاياه وأن تجعل له قداسة تجتهد في أن تقرَّبه من كونه ديانة ؛ وتجعله يوغل في الغموض رغم احتفائه بالموسيقى وإفراطه في الصنعة الشعرية من تركيب نظمي دقيق وقوافي نادرة . ولكني من ناحيةٍ أخرى أهم لا أرى الإبداع الشعري في جملة " تشغل أربعين صفحة ؛ أو قصيدة تشغل أربعمائة صفحة تتوالى فيها العناصر الساخرة والدنيئة والذاتية والمردة والأشباح الرهيبة " كما كان عند ( أرنو ) الذي ثار على الشكل التقليدي ودعا إلى تحرير الشعر من قواعد النظم ..( نفس المرجع ص 9 ) إضافة ً إلي – ولا أري عجبا ً إن قلت - علاقة الشاعر نفسه بالشعر !! لنعترف أن ثمة أسباب ثقافية أو فكرية ما زالت تضع الشاعر بشكل ما في مكانة علوية علي المتلقي ؛ وتأبي إلاّ أن يكون في موضع أمامي بالنسبة لهذا المتلقي .. وهو ما أراه شخصياً حجر أساس في قضية غموض الشاعر على متلقيه ولعلي أحاول تلمس بعض هذه الأسباب خلال هذه الإطلالة بشكل نظري شمولي حيث يستدعي التطبيق توسيع وإطالة رقعة القماشة فلا تقف عند حد كونها مجرد إطلالة شمولية . لا شك أن تشوشا ً ما قد نتج عن اختلاف سياق الإبداع عن سياق التلقي ؛ أو ابتعاد كل منهما عن الآخر مسافة اقتربت إلي حد التماس مع نهاية مدي الرؤية بصرا ً وبصيرة ً .. فكيف كان ذلك ؟ يمكن القول بداية بانشغال الشاعر المعاصر إلي حد الانغماس في هموم التحديث فراح يركض خلف طرائق مختلفة يحاول اكتسابها من ثقافة الآخر غير العربي ؛ وهو ما يختلف اختلافا ً جوهريا ً عن طرائق وسنن وتقاليد تربي عليها المتلقي العربي ؛ مما جعل هم الشاعر المعاصر – خصوصا ً مبدعي الحداثة – همّا ً ثقافيا ً فنيّا ً أكثر منه همّا ً اجتماعيا ً وتاريخيا ً ؛ تلك المعادلة التي ربما نجح الأدب الشعبي والشعر الشعبي ( العامي ) على وجه الخصوص في تحقيق الموازنة بين طرفيها سواء بوعي أو بدون وعي أو بطبيعة اللهجة والتصاقها أكثر بالجمهور ؛ وربما كان ذلك وراء تحقيق هذا النوع من انتشاراً أوسع بين الجمهور وبالتالي ترك أثر أكبر .. وحتى إن كان هذا الهم اجتماعياً واقعياً ؛ وتاريخياً عند شعراء الفصحى ؛ فإن الشاعر الجديد قد راح يعبر عن هذا الهم شعرياً من خلال حرص ربما مبالغ فيه على بلورة قدرته التخيلية مستعينا في ذلك إلى أقصى الحدود بإنتاج تجربته أو همه تصورياً حتى أنه يجعل من التصوير غاية غير منتبه إلى أنه مجرد وسيلة لا يجب أن يطغى الإهتمام بإنتاجها على الغرض الأساسي من النص – القصيدة – أو التأثير على الأثر المرجو منها ؛ إضافةً إلى محاولة الإفادة من خصائص فنية كثيرة جداً على غرار الرمز الذي لا يقف عند الإشارة بل يستدعي إعمال الخيال والإستعانة بالموروث الثقافي والفكري للمثقف الغير عادي– المتخصص - للوقوف على دلالة الرموز ؛ فما بالنا بالمتلقى العادى - الغير متخصص - ناهيك عن الإسقاط ؛ واستدعاء الشخصيات واللحظات التاريخية لجعلها فاعلة في الحاضر ؛ والتناص مع لغة القرآن والكتب السماوية جميعاً وأقوال الحكماء والفلاسفة والشعراء السابقين ليس من العرب فحسب بل من جميع الجنسيات والألوان والألسنة ..واللجوء للأسطورة والمثيولوجيا بتنوعها ( أغريقية – رومانية – فرعونية – بابلية – آشورية .. الخ ) . في حين يظل هم المتلقي همّا اجتماعيا واقعياًبسيطاً ؛ وتاريخيا ً مباشراً بامتياز ... مما من شأنه أن يضخم بالتالي صفة التعالي التي أشرنا إليها في المنتج الشعري ؛ فيصبح شعرا ً متعاليا ً علي واقع منتجيه ومتجاوزا ً لشروطه التاريخية .. فهو بذلك إبداع فوق مكاني ؛ وفوق تاريخي .. - كما يذهب أصحابه إلي ذلك – وبالتالي فهو إبداع غريب عن عالمه وعن متلقيه .. وليس معني كلامي هذا أنني أدعو إلى إهمال الإهتمام بالخصائص الفنية للشعر كمنتج فني بلاغي مخصوص بقدر ما أحاول قياس ذلك على المتلقي الذي تربى وجدانه وتشكلت ملامحه بخصوصية واقعه وتاريخه .. - هل آن لنا ألا نحبذ فكرة عالمية النظريات علي سبيل التجريد الذي يفرغ التصورات المعرفية والمنهجية من حواضنها الثقافية والحضارية الخاصة بها ؟ - هل آن لنا ألاّ نحبذ فكرة إطلاقية العقل الإنساني بالشكل الذي يدعيه فلاسفة العولمة ؛ أو فلاسفة التبرير التنويري العربي الذي يأخذ أنوار عقله عن غيره ليكون أشد ظلاما ً وتعتيما ً علي ذاته وواقعه ونصوصه ؟ نعم .. لقد ابتعد الشاعر العربي المعاصر عن الإرث التاريخي الذي يثقله بما يرسم عليه من سنن ويعلق به من تقاليد ؛ الأمر الذي ذهب باتجاه الشاعر صراحة ً إلي قتل الأب ؛ أو سلطة القديم ناسين أو متناسين أن كل جديد إنما هو خارج من رحم القديم ؛ وليس للمبدع أن يفرغ إبداعه من تاريخيته ؛ وإبعاده عن ذاكرته الثقافية والتي هي في واقع الأمر ذاكرة الجماعة ؛ وحتى لا يبدو أن منطق الفصل أكثر إيلافا ً من منطق الوصل . لذا علينا إذن أن نسلّم بالآتي : أولاً : أن العلم ليس هو العالم بقدر ما هو وسيلة لمعرفة العالم . ثانياً : أن الفكر ليس هو الواقع وإن كان أداة الإنسان للتعرف على الواقع بشكل أكثر وضوحاً . ثالثاً : أن الثقافة إنما تتباهي وتزدهي من خلال سلوك المثقف المتميز وسط المجموع وليست الكم التراكمي من المعارف النظرية . رابعاً : أن الأسماء ليست هي الأشياء وإن كانت تدل على الأشياء . خامساً : أن الأيدلوجيا ليست هي الحقيقة وإن كانت تعبر عن مواقف أصحابها وطرائق تفكيرهم وكيفية تعاملاتهم . سادساً : أن المناهج ليست هي الظواهر التي تشتغل عليها هذه المناهج . ثمة علاقة بين الشئ المدرك نفسه وعلاقته بمرجعه الواقعي والثقافي التاريخي .. نعم .. لقد تغيرت في عالمنا المعاصر وبعمق أشياء كثيرة ؛ حتى لتبدو وكأنها لم يعد لها صلة بما كانت عليه من قبل ؛ ولكن هذا التغير – كما أري – لا يسمح لطموح الكتابة الشعرية ؛ والإبداعية بشكل عام أن تنقطع عن مرجعها ؛ عن سياقها التاريخي ؛ عن مرجعية القراءة أو سنن التعامل مع النصوص والاقتناع بجماليات أخري لم يدرك المتلقي بعد كنهها ؛ بل ولم يستعد أساسا ً لقبولها أو التفاعل الإيجابي معها ... فإذا أدركنا – علي سبيل المثال لا الحصر – انهيار النظام الإيقاعي المؤسس في وعينا منذ أربعة عشر قرنا ً أو يزيد لموسيقي الشعر التي عرفها المتلقي ؛ مع عدم توصل التجربة الشعرية الجديدة إلي رسم معالم لنظام إيقاعي جديد ( بديل ) سهل علينا معرفة أحد أسباب عزوف المتلقي عن التواصل مع الشاعر ؛ ناهيك عن أن يصبح الغموض غاية ؛ وشرنقة جاهزة لإخفاء حالة العجز عن مقاربة الجديد الحقيقي ؛ مما قد يحيل الأزمة إلي أزمة إبداعية مع اللغة في المقام الأوّل ؛ حيث قاموس التمرد والاغتراب – علي سبيل المثال أيضا ً – قد صار شعارا ً للعصر .. من هنا يمكن القول أن الشعر العربي الجديد والذي يمثل المثقف العربي الجديد المنتج والمغترب مع فنه في آن واحد ٍ مأزوم ؛ لأنه يتحرك في الغالب الأعم تحت وصاية سلطة : - قد يتجاوب معها فيتوقع الاستجابة ؛. - وقد يتعارض معها فيكون اصطدامه بها مبررا ً كافيا ً لانفصاله عن الجماهير . انطلاقا ً مما سبق ؛ وتأسيسا ً عليه ؛ فإن المتلقي العربي من موقع انتمائه إلي واقعه الاجتماعي والتاريخي من جهة ؛ ومن واقع انتمائه إلي نصوص سابقة في الوجود علي وجوده ؛ فهو يحاول أن يبحث في النص الجديد عن أثر ؛ ويترسم وظيفة أو مناسبة لعقد الصلة بين نظام نص المبدع الجديد ونظام نصه كقارئ ؛ وهو يجاهد لتحريك فهمه الماقبلي – إن صح التعبير – وذاكرته النفعية لتقرير معني ؛ واشتقاق نص من نص المبدع ؛ فالقارئ من أي موقع يهمه المعني ؛ في حين أن النص الذي بين يديه لا يهمه ذلك بقدر ما يهمه أن يلهث وراء التجديد والتحديث ؛ ومن هنا نري الشاعر الجديد يلح في الدعوة إلي ضرورة إيجاد قارئ جديد لا يقرءاه بذائقة جاهزة ويصر علي ذلك ؛ وهكذا تتسع الهوة ؛ وتستحكم الأزمة . من ناحية ٍ أخري فإن الشعراء الجدد؛أو معظمهم – كما أظن – يتعاملون مع اللغة الإبداعية بوصفها فقط مادة للكشف عن الوجود الفردي للموجود الفرد ؛ لا أداة تواصل مع الآخرين ؛ أي بوصفها إمكانية مغلقة لمواجهة الوضع الخاص بالفرد المبدع في سياق علاقته باللغة والفكر .. الأمر الذي أدي باللغة إلي أن تعدو موطنا ً لهؤلاء ومنفي لهم .. ربّما لعجزهم عن اختراق جدارها والانفتاح بها علي الآخرين . أضحت اللغة الإبداعية أو الشعرية إذن بمثابة القمقم الذي يوفر الملاذ الآمن والحماية من جحيم الآخر الذي لا يقوي علي مقاربتها ... بمعني آخر أصبحت اللغة الشعرية محض إمكانية لفهم الذات وتحقيقها والبحث عن هوية ممكنة لها ؛ فتراجعت العلاقة التواصلية حتى انحسرت إلي منطقة الصفر وغدت لغة الشعر هي المعالج النفسي لذات الشاعر .... وجدير بالذكر ان هناك أيضاً آفات تتعلق بسوء المناخ الثقافي في الوطن العربي ؛ منها على سبيل المثال لا الحصر : - سوء اختيار القائمين على المؤسسات الثقافية من الموظفين من ناحية وسوء استخدام هؤلاء الموظفين لوظائفهم من ناحية أخرى ؛ فكل من يشغل وظيفة في مؤسسة ثقافية يصبح بقدرة قادر إما شاعراً أو أديباً وبالطبع تسخر له مطبوعات المؤسسة من كتب ومجلات ويفرض ما ينتجه من غث على السوق الأدبية حارماً بذلك المبدع الحقيقي من فرص الخروج للآخر أو على الأقل مقلصاً نسبة هذه الفرص في أضيق الحدود . - افتقاد الابداع للمواكبة النقدية اللازمة لتقديمه بشكل يليق به دون تسول أو توسل ؛ وانشغال الناقد بالبحث عن المبدع النجم للكتابة عنه ونفاقه وبلورته مهما كانت الأسباب التي ساعدت في إنجاز نجوميته من استغلال سئ للوظيفة ثقافية أو إعلامية أو سياسية أو مالية ؛ وانصرافهعن المبدع الحقيقي الذي لا يملك سوى إبداعه المتميز والمتفرِّد . - ومن ناحية أخري انشغال المبدع بالبحث عن الناقد النجم الذي ينال رضى المؤسسة بغض النظر عن إمكانياته النقدية ومنهجه ؛ وأسباب نجوةميته القائمة على النفاق والتدليس ....وغير ذلك كثير .. ثم إن شعور المبدع – الشاعر – بغياب القارئ أو المتلقي المشارك له في الوعي والمعاناة والثقافة قد راح يدفع به لمزيد من العزلة والتشرنق ؛ وهو رد فعل سلبي علي مستوي حياة الشاعر وإبداعه سواء ً بسواء ْ .. فإذا أضفنا إلي كل ما سبق انكسار الحلم العربي بمشروع قومي عربي واحد علي مستوي الواقع الاجتماعي والتاريخي العربي ؛ وفشله في إنتاج نظرية نقدية عربية حديثة تبلور ما يخصهُ ويخصصهُ ويفرِّده عن غيره . فقد أدي ذلك لانكسار حلم النص / القصيدة وانكفائها علي ذاتها ؛ مما أدي إلي غياب حقيقي لدور الشعر في الواقع العربي المعاصر .