يخوض ميل جيبسون مغامرة سينمائية قضى ثلاث سنوات لإنجازها وتم تصويرها في أستراليا، الفيلم يحكي قصة حقيقية لشاب يُسمى ديسموند دوس (اندرو غارفيلد)، الذي كان ينتمي لطائفة بروتستانتية يسمونها "السبتيون" وخلال الحرب العالمية الثانية يتقدم دوس كغيره من الشباب للخدمة كممرض في الجيش لكنه يرفض أن يحمل أي سلاح حقيقي، خلال التدريب يتم السخرية منه ومعاقبته لرفضه مجرد لمس السلاح ويمر بمشاكل عديدة ولكنه يتجاوزها ليلتحق مع وحدته إلى جبهة "هاكسو ريدج"، الواقعة في جزيرة أوكيناوا اليابانية. يثبت ديسموند في ساحة المعركة الملتهبة أنه شجاع ومع تراجع فرقته بعد معركة جحيمية مرعبة، يظل هو وحده لينقذ عشرات الجرحى ومنهم من كان يسخر منه ويصفه بالجبان، يتحول ديسموند بطل فرقته بل ويؤمنون بصلاته ويحققون النصر في الجولة الثانية. في هذا الفيلم يختار جيبسون شخصية استثنائية تؤمن بعقيدة ويبدو من الصعب أن يقتنع بها أحد أو أن تتحقق في الواقع ويقترب من أفلامه الأخرى "أبوكاليبتو" و"آلام المسيح"، فالبطل هنا يُضطهد ويسجن ويهدد بالسجن بتهمة العصيان العسكري، كما يراوده الخوف أن يسقط من نظر دوروثي (تيريزا بالمر)، وهي حبيبته والتي يكون لها حضور مهم في النصف الأول من الفيلم. لا نفهم في البداية السبب الحقيقي لرفضه حمل السلاح وسيخبرنا به وهو في المعركة، عندما يروي لصديقه أن والده كان يضربه ويتحمل قسوته لكنه ذات مرة ضرب أمه وحمل مسدسا يهددها به، وهنا أمسك المسدس ووجهه إلى رأس والده ومنذ تلك اللحظة أقسم ألا يحمل أي سلاح. هذا الفيلم يكمل مسيرة جيبسون في خيارات مواضيع أفلامه وميوله إلى التاريخي الاجتماعي وكانت جميعها قوية ومغايره في الطرح، كما يفصح لطرق الإيديولوجية الدينية ويجد فيها متعة وعلاقة حميمة، وتقديم أفكاره بشكل متداخل بين الخاص والعام، الفردي والعالمي. نجد في هذا الفيلم "لا تقتل" عبارة أنجيلية يعطيها القداسة والاستمرارية ويصور هذا الكون المرعب الذي لم ينصت لكلمة المسيح "لا تقتل" قضية ومشكلة يصعب تحقيقها في زمن الحرب للقتل والتدمير أسماء مختلفة وبراقة، خطاب العنف يتحول لخطاب مقدس بينما المقدس يتحول لنقطة ضعف، "لا تقتل" تصبح تهمة وجنونا يثير السخرية ويستحق العقاب. ميل جيبسون يصور القتال العنيف ويمطرنا بمئات اللقطات المحسوبة جدا لإنتاج تأثير نفسي ودرامي نادرا ما يتحقق، وليجعل من فيلمه هذا عن الحرب الأكثر إثارة للإعجاب من أي وقت مضى حتى الآن، فلا توجد لقطة مجانية ويزج بنا في القسوة التي لا هوادة فيها. تم حبك هذه المشاهد من عمق المعركة، تتدفق الصور المتقطعة كخطاب عنيف يناهض رؤية المسعف دوس، لكنه ظل مستمرا ومخلصا لفكرة "لا تقتل" ويجعلنا هذا الأسلوب نتراهن حول الاستمرارية بين تفكيره وتصرفاته وكيف سيكون تأثير هذا الواقع المرعب؟ وهل يمكن تحقيق كلام الرب؟ المخرج كان وفيا لنفسه وهو لا يخفي معتقداته الدينية والتبشير بها، العنوان الفرنسي للفيلم "لا تقتل" يعزز مكانة الكتاب المقدس من الفيلم، في حين أن العنوان الأصلي (الأميركي)، يميل إلى الواقعية، هو "هاكسو ريدج" أي اسم المعركة. نجد من يشيد بالفيلم ويصفونه بالقوة ويعتبرونه من أفضل أفلام الحرب ومكافحة العنف، ولكن بعض النقاد ينتقدون شهادة ديسموند دوس الحقيقي في الخاتمة ويرونها مزعجة وكسرت البساطة المنبثقة من شخصية البطل. نرى كتاب الأنجيل بداخله صورة الحبيبة ونسمع أكثر من مرة الوصية الخامسة من سفر الخروج "لا يجوز لك ارتكاب جريمة قتل." ويبدو أن ميل جيبسون يتوقف أخيرا على نقطة البدائية، فالدين يعني المحبة والتسامح وهو هنا يرجح كفة هذه الميرة أي الجانب المشرق من الدين الذي يقود إلى أشياء جميلة، كما أن المتدين لا يعني المجنون أو الخيالي ونلمس أن شخصية البطل عادية ويعترف البطل أنه عادي ويصلي كما يصلي غيره ولا يسمع أو يتكلم مع الله، وخلال المعركة وبعدها نجد البطل يركض، يخاطر بحياته ليلبي من يطلب المساعدة دون النظر إلى شخصية المصاب أو سنه أو معتقده الديني ولا يطلب من الآخرين أو يغريهم بدعم معتقده أو الإيمان به. هنا البطل المتدين يقدم دينا عمليا ومثاليا ونشعر كأننا نعيش أسطورة دينية خيالية ومثالية جدا قد لا تتفق مع وجهات نظر الذين لا يؤمنون بمثالية الدين، لكن رغم كل ذلك تلعب الكثير من العناصر والأسلوب الإخراجي دورا مهما لجعل أي متفرج يجد لذة ومتعة ويتفاعل مع الفيلم رغم بعض الملاحظات. يثير جيبسون بذكاء قضية الجنود القداماء بالحروب الأميركية فيصور لنا والد ديسموند المدمن على الكحول والعنيف مع زوجته وشعوره بالإحباط وأنه نكرة لا أحد يشعر به لذا يقضي يومه بالمقبرة يتحدث مع قبور رفاقه ويعارض التوجه إلى الجبهة كون الحرب تمسخ الإنسان وتحوله إلى قاتل. يتمنى أي متفرج لو أن المخرج جعل للحبيبة دورا أكبر، كما يؤخذ على الفيلم عكس صورة سيئة للطرف الآخر ولم تكن هنالك عدالة في هذا الجانب. يفصح المخرج ل لو فيجارو الفرنسية أن مشاهد الطفولة الغرض منها التدليل على أن العنف يأتي من عمقنا ويوضح أن هناك حالات نضطر فيها للقتال. والباقي مضيعة للوقت وتصوير قسوة القتال هي ضرورة لفهم جحيم المعركة، وصفه لا يزال أقل من الواقع وهذا فيلم ضد الحرب، ضد الأسلحة وعلينا الحد من الانتقام وزرع كراهية الحرب، ولكن تكريم المقاتلين الذين عانوا وضحوا أمثال ديسموند دوس، هذا ضروري فهذا الشخص له عقيدة رائعة تقوم على الحب. .... - سينمائي يمني مقيم في فرنسا