ينحت الشاعر والتشكيلي الجزائري خالد بن صالح نفسه في الزّمن. فمن مجموعته الشعرية “سعال ملائكة طيّبين” (2010) إلى “مئة وعشرون مترا عن البيت” (2012) هناك مسافة من التجريب الشعري المختلف في سياق قصيدة النّثر، يحاول صاحبه أن يذهب به إلى اجتراح تجربة ذات طرافة وفرادة وسط الاستنساخ الرائج في صفحات الكتب المذيّلة بلفظة “شعر”. ومؤخرا أصدر بن صالح مجموعته الشعرية الثالثة عن دار المتوسط للنشر بعنوان “الرقص بأطراف مستعارة” التي تضمّنت 39 قصيدة لعل أولها بمثابة بيان جمالي يقيم عقدا مع القارئ ويضيء بعمق عوالم المجموعة. إعادة الخلق تسألك التي تجلس بجانبك في الحافلة، وأنت تقرأ “قطار باتاغونيا السريع ”لسبولفيدا، حيث المقاعد تهدهد الركاب “لماذا تكتب؟” تفكر في وليمة كاملة من المآسي، في مدينتك المحترقة، كما لو أنَّ أحدهم أشعلها منذ مئة عام. تفكر في العالم كخطأ شائع في القدرة على الاختفاء، فجأة، بين كل هذه التوابيت. وفي جملتكَ التي تخرج كفراشة ثملة “أكتب بدافع الضجر” وطبعا “أنتصر بلا تردُّد للعادي، للأشياء التي تتأخر في أن تصير عادية، لأسباب واهية”. في النص حبكة سردية تتصل بسؤال وجواب. تفاجئنا شخصيّة تُعرّف بموقعها إزاء شخصيّة “الأنت” المخاطبة في القصيدة، والتي تمثّل قناعا للأنا “التي تجلس قربكَ في الحافلة”. تُعرّف الشّخصيّة الأنت-الأنا من خلال سمتين: إنّها القارئة (قطار باتاغونيا السريع لسبولفيدا) والكاتبة (لماذا تكتب؟) يمثّل باقي النص ردّة فعل على هذا السؤال سواء ما تفكّر فيه الذّات أو ما تقوله جوابا عنه. لكنّنا باعتبارنا قرّاء، نسمع كلّ شيء: المصرّح به والمفكّر فيه باطنيّا. وهذه الذّات تفكّر في المآسي، المدينة، والعالم. ولا تحوّلها إلى أجوبة على سؤال لماذا. ولكنّها تشير إلى تنزّل الكتابة في شبكة من العلاقات مع ما هو تراجيديّ سواء ما تعلّق بالفضاءات الضّيّقة أو بالعالم كلّه وباتّخاذ موقف وتشكيل رؤية من كلّ هذا، حتّى لو كانت قائمة على ازدراء هذا كلّه واعتباره تافها واعتباطيّا. “أكتب بدافع الضّجر”. هذا نصفُ الإجابة الذي يعكسُ علاقة عبثيّة مرحة مع العالم وأشيائه. أمّا النّصف الثّاني منها فهو تحطيم لجوهرها. ثمّة تحويل لسؤال ال”لماذا” من خلال الإجابة على الكيف “أنتصر بلا تردُّدٍ للعادي، للأشياء التي تتأخر في أن تصير عاديةً، ولأسباب واهية”. توليف المتنافرات في قصائد خالد بن صالح هناك استقدام للمراجع المكرّسة وسعي إلى بلبلتها، فنجده يذكر الكثير من الأسماء لكتاب ومفكرين وشخصيات حقيقية وروائية وأحداث تاريخية وكتب وأفلام، يذكر مثلا “ELSA” (في إشارة إلى مؤلّف أبولّينير)، دراجة تشي، “والفودكا تسيلُ كالنبع من روايات دوستويفسكي”، والرفيق ماركس يقرأ قصيدة على الجماهير مطلعها “يا عمَّال العالم تبدَّدوا”، كما يستحضر النوم في بطن الحوت (إشارة إلى يونس النّبي)، وأرامل زوربا، الطفل الذي يطاردُ مالينا فوق دراجة (إشارة إلى فيلم مالينا)، رواية “أغمات” (رواية ليوسف فاضل)، “رصيف الأزهار..” (إشارة إلى رواية رصيف الازهار ما عاد يجيب' لمالك حدّاد)، وفراشة جبران، وشارب تشارلي شابلن، شبح دو ساد..”. هذه بعض نماذج من مراجع خارج-نصيّة معروفة لدى معظم القرّاء ومتعلّقة بسياقات محدّدة استقرّت في الأذهان يستقدمها خالد بن صالح إلى فضاء نصّه، حيث يستنبت لها سياقات جديدة تظلّ خلالها في توتّر مع متعلّقاتها المرجعيّة ممّا يخلق لها شعريّة فريدة تقوم على إعادة خلق أبنية جديدة للعالم وأشيائه. أوليس الشّعر في بعض نفسه خلقا لأبنية جديدة للعالم وأشيائه مثلما هو توليف للمتنافرات؟ سواء في ما يتعلّق بالمرجع-الكليشيه أو بالمرجع الذي يبنيه الخطاب النصي من داخله وفيه، فإنّ الشاعر يعمد إلى الجمع بين ما لا يجتمع في العوالم الأخرى المغايرة لعالم القصيدة. إنّه يدفعنا إلى أن نعرّف الصّيف باعتباره مأساة، ثمّ نقول معه “استبدلنا الشّمس ببرتقالة. وحرّكنا البحر بملعقة”. ومعه يمكننا توقّع أيّ شيء (تحوّل أو ‘ميتامورفوز” ممكن لعوالمنا الصغيرة الثابتة). يقول ابن صالح “الباب الأزرق المفضي إلى الحمّام قد يكون مزحة قاتلة”. ومع الكاتب نبدّل العين التي نرى بها الأشياء ومن خلالها تتغيّر مراكز المنظورات “هناك أمرٌ أريدُ أن أختبر فداحته، إن كانَ خشبُ السقف سيتألَّم لشدِّ الحبل المعقود برقبتي. هل سيظهر ذلك كندبة أو شرخ صارخ أم سيكون مجرَّد خط خفيف بالكادِ يُرى؟”. يصير الموت والانتحار أمرين تافهين، فمجرّد تجربة بسيطة للتثبّت من مشاعر الخشب وحساسيّته ومن الرسم التشكيلي الذي سيتلو عملية الانتحار على وجهه. إنّ هذه “الفذلكة المرحة” كما يحلو لي تسميتها خارج الاصطلاحات الرسمية هي ما ينتظم داخل المجموعة، فهي تشاكسنا وتستفزّنا لمراجعة ثوابتنا في مناخ يحتفي ب”العاديّ” و”العرضيّ” و”الاعتباطيّ”، كما صرّح الشّاعر منذ نصّه المفتتح للمجموعة، حتّى يتمكّن منّا وسواسه فنسأل: وهل ما نحسبه عاديّا وغير عاديّ هو كذلك حقّا؟ ثمّ نسأل استدراكا: ما العاديّ أصلا؟ وما الذي جعله كذلك؟ يقول الشاعر في “قصيدة بيت العنكبوت”، “ويمنحني طريقة جديدة في الكتابة. أساسها الكسل واللاّمبالاة. محاولا إزاحة كلّ الأقنعة التي تخفي زيف العالم”. أسئلة كثيرة تنفتح قد تقودنا إلى مقاربات مختلفة وإشكالات متفرّعة، فالشاعر يحول الكتابة إلى سؤال الكتابة وإلى موضوع حياة في آن دون الفصل بينهما، بل يشرعهما كذلك على سؤال الموت.. كلّ ذلك في مناخ من اليأس المرح. إنّ الحياة والموت والكتابة والعبث تمتزج معا في فضاء يسمها بالتّناسق والجماليّة العجيبة، هو فضاء القصيدة دون شكّ.