سؤال الهوية أصبح سؤالا شائكا معقدا بعد أن أصبح الفيلم بصفة عامة والعربي بصفة خاصة، لا يمكن ببساطة أن ننسبه إلى جهة إنتاج واحدة، بل ولم يعد من الممكن معرفة صاحب الحصة الأكبر في الإنتاج؟ وهل التمويل هو الإنتاج؟ أم أن جهة الإنتاج هي الجهة التي تبادر إلى تبني مشروع الفيلم وتسعى إلى الحصول على التمويل من جهات مختلفة، ثم تتولى إنتاج الفيلم بشكل عملي. وإذا كان الأمر يتعلق بأن الإنتاج غير التمويل، فلماذا ننسب أفلاما ظهرت نتيجة مبادرات من جهات الإنتاج الفرنسية إلى السينما العربية؟ رغم أنها لم تحصل على أي دعم حقيقي من طرف عربي، سوى بعض الخدمات السينمائية التي استأجرتها ودفعت مقابلا لها، والمقصود هنا، تسهيلات التصوير وبعض المساعدين و”الكومباس” المحليين؟ بين الهوية والثيمة الأمثلة على ذلك كثيرة مثل أفلام المخرج من أصل مغربي نبيل عيوش مثلا “كل ما تريده لولا” (المحسوب على المغرب، بينما هو فيلم كندي فرنسي ولا شأن للمغرب به من الناحية الإنتاجية)، أو فيلمه الآخر الذي أقام الدنيا ولم يقعدها “الزين اللي فيك” وقد منعته السلطات المغربية، وقد صُور بالكامل في المغرب، رغم كونه من إنتاج فرنسي. ولماذا يقال إن فيلما مثل “عين النسا” للمخرج رادو ميهالينو، وهو فرنسي الجنسية من أصل روماني فيلم مغربي، في حين أنه من إنتاج مشترك بلجيكي فرنسي وإيطالي، وقد صور في المغرب، كما أنه ناطق باللغة العربية وينتمي الممثلون والممثلات المشاركون فيه إلى بلدان عربية مختلفة؟ لا شك أن الأصل العربي للمخرج يلعب دورا في تشكيل هوية الفيلم، ولكن شريطة أن يكون الفيلم نفسه يعبر عن قضية أو عن هم من الهموم العربية، ودون ذلك كيف يمكن الحديث عن هوية عربية للفيلم؟ مشكلة الهوية العربية لا علاقة لها بالطبع بالمستوى الفني للفيلم نفسه، فأقل الأفلام التجارية المصرية يتمتع بهوية واضحة، شريطة أن يكون الفيلم “أصيلا” في معالجة موضوعه، أي لا يكون مقتبسا أو منقولا عن فيلم أجنبي، يكرر نفس أفكاره وثيماته الغريبة تماما عن البيئة المصرية والواقع المصري. فمن الممكن أن تدور أحداث فيلم مصري في الفضاء، مثلا، كموقع لتشكيل الحدث واستخدام المكان بشكل مجازي، أما أن يكون بطل الفيلم أو الشخصية الرئيسية فيه قائد مركبة فضائية، مثلا، فهو ما يجعل الفيلم خارج هويته تماما! لا شك أن الموضوع ومستوى التناول، أي طريقة التعامل معه سينمائيا هي التي تمنح الفيلم هويته، وليس من الممكن أن نأتي بمخرج أجنبي، بريطاني أو أميركي، مثلا، ثم نكلفه بإخراج فيلم عن علاقة الإنسان العربي بالصحراء، أو للتعبير عن سكان مدن القصدير والمهمشين الذين يعيشون في الأكواخ الواقعة خارج نطاق المدن العربية، ونتوقع منه أن يتعامل مع الموضوع كما يتعامل معه المخرج العربي الذي يلم بأطراف الموضوع، شريطة أن يكون تعامله مع الموضوع تعاملا جديا وليس سطحيا، ونتيجة دراسة ومعايشة حقيقتين، وهي مسألة تتعلق أيضا بطريقة التناول وأسلوب الإخراج. لقد أنتجت قطر فيلما بعنوان “الذهب الأسود” (أو “يوم الصقر”) عام 2011، أخرجه المخرج الفرنسي جون جاك أنو، وهو مخرج مرموق في السينما الفرنسية (من أشهر أفلامه “اسم الوردة” 1986). وقد بلغت ميزانية الفيلم 55 مليون دولار، أي أنه يعتبر بالمقاييس الإنتاجية العالمية فيلما من الإنتاج الضخم، وقد كتب له السيناريو المخرج بالاشتراك مع كاتبين فرنسيين، وجميع الممثلين الرئيسيين في الفيلم من الأجانب منهم الأسباني أنطونيو بانديراس مع الممثل الفرنسي من أصل جزائري طاهر رحيم، وكتب له الموسيقى الموسيقار الأميركي الذي توفي العام الماضي، جيمس هورنر، وصوره جونماري دروجو. المعالجة المعمقة المهم أن هذا الفيلم الذي صور بإمكانيات عالية وفتحت أمامه كل الخزائن، والمواقع الطبيعية، وهو يصور حياة سكان الجزيرة العربية وصراعاتهم القبلية قبل ظهور النفط، فشل فشلا ذريعا ولم يحقق شيئا لمنتجيه، لا على الصعيد المالي ولا الدعائي، فقد حقق إيرادات تتجاوز قليلا الخمسة ملايين دولار! الاكتفاء بعامل وحيد هو جهة الإنتاج الأصلية في صبغ هوية الفيلم، لا يفي بغرض اعتباره ينتمي إلى السينما العربية وبغض النظر عن الفشل التجاري والفني أيضا، هل يمكن اعتبار هذا الفيلم فيلما عربيا؟ لقد قامت قطر بتمويله بالكامل مع شراء خدمات إنتاجية في تونس وفرنسا وإيطاليا، وجاءت نسخة الفيلم التي قامت بتوزيعها شركة أميركية كبرى ناطقة بالإنكليزية. هذا النوع من الأفلام يخلق إشكالية من نوع خاص تماما كما يخلق فيلم مثل “الطريق إلى إسطنبول” للمخرج جزائري الأصل رشيد بوشارب إشكالية أخرى، فالنقاد العرب جميعهم يحتفون به باعتباره فيلما “عربيا” شارك في مهرجان برلين، تماما كما اعتبروا فيلم بوشارب السابق “رجلان في المدينة” انتصارا عربيا، لأنه شارك في مسابقة المهرجان نفسه في العام السابق، رغم أنه فيلم فرنسي، كما أن الفيلم الأول فرنسي بمشاركة جزائرية محدودة بحكم توفير الخدمات الإنتاجية، أي خدمات التصوير في الجزائر، والاستعانة بعدد من الممثلين الجزائريين في أداء أدوار الأتراك الثانوية في الفيلم. إن الاكتفاء بعامل وحيد هو جهة الإنتاج الأصلية في صبغ هوية الفيلم لا يفي بالغرض، أي باعتبار الفيلم ينتمي إلى السينما العربية، بل لا بد أن يكون منتميا انتماء ثقافيا إلى القضايا والهموم العربية، أما مجال الحكم الفني من حيث الصدق في المعالجة والتناول فيبقى مفتوحا أمام النقاد، ويظل الجدل حول الموضوع قائما بالطبع.