رواية أثير عبدالله النشيمي الجديدة «ذات فقد» منذ عنوانها وإهدائها تتوسّل بالفقد الذي يهيمن على النص، سواء بالفقد المادي حيث رحيل الأب في حادثة وهو ما شكل مفارقة في حياة الرّاوية (ياسمين) التي شعرت برحيله أنها فقدت العائل والسند، فراحت تبحثُ عن بديل له فيمن يكون شريك حياتها، لكنها تقع في الاختيار الخاطئ، وهو ما يسبب الفقد المعنوي. تبدأ حكاية “ذات فقد”، الصادرة عن دار الفارابي 2016، بالشخصية الرئيسية والساردة في ذات الوقت، ياسمين، حيث تسرد مأساتها في الفقد والحبّ، والتي غيّر موت الأب في حياتها أمورا كثيرة، كما أن هذا الموت جعلها تقف طول حياتها على ساق واحدة في ظلّ المجتمع الذي تعيش فيه ومن ثمّ زاد فقدها فقدا وشعرت «بأنّها عالقة في منطقة برزخيّة، منطقة بين ضباب الموت وسراب الحياة» حتى جاء مالك في يوم ماطر من صباحات بيروت، حدث اللّقاء بينهما صدفة على الرغم ما يفرّق بينهما، جمع بينهما الكتاب، الذي اتخذه مالك طعما ليسقطها في أخاديده، وعلى الرغم من اعتراض أمها، لسيرة أبيه المزواج، إلا أنها تصرّ على الزواج منه، لأنها وجدت فيه ما يعوّضها عمّا فقدته بموت أبيها، لكن حبهما كان كما تقول «أشبه بالحبّ المنهك»، يتمّ الزواج لكن بعد أربعة أشهر تتوالى نكبات سوء الاختيار، باكتشافها لخياناته. من لحظة اكتشاف ياسمين خيانة مالك لها، تبدأ أحداث الرواية في التصاعد وكذلك علاقات الشخصيات ببعضها في التوتر، فترغب ياسمين في الطلاق، إلا أن العلاقة بينهما تتحسّن بعد حملها، وهو ما يجعلها تتساءل عن علاقة الأبناء في حياة أبائهم، لكن لا تستمر هذه الحالة كثيرا، فيكرر خيانته لها، وهذه المرة في بيتها يوم ذهبت إلى أمها في انتظار الولادة، وما إن عادت إلي البيت فجأة حتى اكتشفت أن أخرى معه في البيت، ومثلما كان الحمل منقذا لعدم وقوع الطلاق، تكون ولادة الطفل سببا في عدم التعجيل به هذه المرة أيضا. الحكاية في صورتها الكُلِّية وحتى في نهايتها التي كانت متوقعة وأفصحت عنها الساردة في سردها عندما طلبت من زوجها ردم المسبح أو تسويره بسور، حكاية بسيطة، لكن في الحقيقة مع بساطة الحكاية وعدم تشعّبها في الأحداث، إلا أن الكاتبة أكسبت هذه الحكاية البسيطة أهمية بتطرقها إلى الواقع المحيط وأثر هذه الأنساق التي جعلت المرأة تابعة للرجل، بل هي سعت في الكثير من مواضعها لأن تتمثّل المثل الشائع «ظل راجل ولا ظل حيطة». قبلت الزوجة ياسمين الكثير من المواضعات التي فيها امتهان لكرامتها امتثالا لقاعدة “ظلّ الراجل”، فرأت الخيانة بعينيها، ولم تجرؤ على مواجهته وقتها، حتى لا تسمح لهذه المرأة أن تنال من كرامتها. وتارة ثانية تنتقص من صورة المرأة فتقول إن «الأمهات المخذولات يواصلن الحياة بسبب الأطفال». الموت والإنجاب مع خط الحكاية البسيط إلا أن الكاتبة تعمّق منها عبر طرح تساؤلات عن علاقة الثقافة بالإنجاب، فتسعى إلى اختبار نظرية هربرت سبنسر التي تقوم على فكرة أن المرأة المثقفة والباحثة فكريًّا هي أقل خصوبة من النِّساء الأخريات، بالإضافة إلى تمثّلات الموت الذي تجسّده ككائن حيّ «كلّ يوم يمر الموت بي يطوف فوق رأسي، يحوم حولي ببروده المهيب، كل يوم أشعر بذراعه تحيط جسدي، تطبق على قلبي، فأرتجف خوفا وأنز موتا فيضحك الموت سخرية ويرحل بعيدا ويتركني أَنفض بَقاياه العالقة بي وهو يقهقه لنا موعد قريب!». وفي شعورها بفقد الحبّ تستدعي فقد المتنبي لحب خولة أخت سيف الدولة. كما تحتوي التجربة على وصف دقيق لمشاعر الأمومة الأولى، وحالة عدم الإدراك الحقيقي والعجز عن التعبير عن المشاعر، مشاعر الحمل وما يكتنفها من رحلة ممزوجة بالعذاب والحب، الموت والحياة، وهذه التجربة على قصرها تلتحم مع الأطفال الأيتام والمحرومين في تداخل يعكس حالة من التماهي بين الخاص والعام. الفقد المعنوي ثمة نزوع إلى سياق اجتماعي أحكم سيطرته وأفرز ثقافته البطريركية بفرض ناموسه، الذي يعد الخروج عليه خرقا للعرف، فموت الأب في ظل هذا المجتمع جعلها «تعيش بساق واحدة»، والأعراف والعادات تحرك أفراده «كَدُمَى في مسرح العرائس». تتميّز اللغة بوضوحها وسلاستها، وقدرتها على التعبير عن المشاعر المتناقضة، بنزوعها إلى الاستعارة حينا، والميل إلى التشبيه في مواضع عديدة، علاوة على تكثيفها وهو ما جعل الكثير من العبارات تأخذ منحى الحكمة في مجازاتها وأيضا دلالتها العميقة، على نحو قولها “ما أقسى الموت الذي يسرق الحياة، وما أجمل الحياة التي تأتي بعد موت!”. يميل السّرد في الكثير منه إلى الطابع الغنائي؛ حيث البطلة تروي هزائمها في الحياة منذ وفاة والدها إلى هزيمة الزواج من مالك صاحب الخيانات المتكرّرة في حياتها، ونصاله التي لم تفارقها كُلَّما حاولتْ تضميد واحدة جدّدها بخيانة جديدة، إلا أنّ حدّة الغنائية تنكسر مع حالة الحوار الداخلي الأنا/ الأنا، رغم أنه لا يبدو من الناحية الشكلية حوارا داخليا، وإن كان أشبه بمراجعة الذات لمسيرتها، أو تقليلا لهزائمها، بأن تقدّم تبريرات ودفوعات عن الأسباب التي قادتها إلى هذه النتيجة. اتسمت البطلة بنموذج الشخصية الضدّ، فبدت طوال الرواية هي الضحية بالرغم من أنها كانت قادرة على تفادي هذه الضربات والطعنات، الشيء الإيجابي في شخصية البطلة أنها سعت للتقليل من خسائرها بتعطيل الأفكار السّلبية أو وأدها، كنوع من التحولات الإيجابية لمواصلة الحياة. ثمة سؤال طرح في ثنايا السّرد: هل التجربة السّابقة للفقد مهمّة لتحديد خيارات المستقبل؟ الجواب يقول "سيظل الصّراع قائما بين المرأة الخام ورجل التجارب".