تتغير رؤيتنا للمدينة، تتبدل علاقتنا بها مع الوقت، ومع كل شهر، ومع كل فقد، ربما لهذا السبب ما أزال أفكر كيف نشأت علاقتي الأولى معها، مع تلك المدينة (البلدة) الغامضة، المعلقة، الغافية على كتف الجبل. المدينة التي تنطوي على نفسها مساء لتشبه القرية، وتنفتح عند الصباح بحثا عن جديد ما، عن مجهول لم يصل إليها من العاصمة. *** منذ أعوام طويلة، كان هواء شهر آذار صاقعا.. صاقعا جدا في زحلة. قالوا إنني ولدت في الثالث منه. في يوم ثلاثاء أيضاً. *** في أول المدينة تمثال فتاة الكرمة، وفي وسطها تمثال العذراء مريم يبدو عالياً وبعيداً، البيوت الحجرية القديمة على يمين الطريق. أمشي.. أمشي.. وأمشي، الهواء يشتد صقيعه.. أشد ياقة معطفي. قسوته تترك آثارا مرة على الوجه. في الجسد.. على الأصابع.. شفاهي مزرقة... دمائي متجمدة. خطواتي تود لو تسرع نحو مكتب البريد. أنتظر.. منذ أسابيع، أنتظر ربما منذ أشهر، رسالة لم تأت. ويستمر البرد. *** تنشقت رائحة المطر في كانون الأول. عواصف شباط علمتني الغناء مع الريح والصلاة للمطر. في آذار غنى لي الأصدقاء أغنية الميلاد، وتذكرت أنك لم تذكر يوم ميلادي. في نيسان بدأت مواعيدي الأولى مع الشمس، أراقبها تلقي بشعاعها على بيت صديقتي العجوز رجية ، وهي تكنس ساحة الدار وتشذب نبات حديقتها. أيار أكثر سخونة، أشتري آيس كريم بنكهة الفانيليا وأنا في طريقي إلى مكتب البريد. موظف البريد الذي صار يعرفني يواسيني. يقول: لا بد أن هناك خطأ في العنوان، وربما تكون الرسائل تاهت في بيروت . أبتسم له وأمضي.. الرسائل ربما لم تُرسل أبدا.. كانت عيناه تنطقان بهذه العبارة. في حزيران ستقفل المدارس أبوابها، سأنتهي من الدراسة، وأنتقل الى صف أعلى، ينتظرون مني النجاح بمعدل مرتفع، سأفعل كي أغادر زحلة، كي أبتعد عن هذه المدينة المعلقة بين جبل ونهر. بين تموز وآب تتزوج الفتيات ويغادرن بيوت آبائهن، تقام الأعراس لأيام ثلاثة، ويأتي إلى أطراف المدينة جيراننا النَّوَر الذين ينصبون خيامهم في كل صيف، ويرحلون مطلع الشتاء. منعزلون، يسكنون عند الأطراف، منغلقون على أنفسهم، لا يتكلمون مع سكان البلدة، وإذا حاولت الكلام معهم يفرون منك، تقول أمي إنهم يخطفون الأطفال، تحكي لي قصة جبينة التي خطفها النور من حضن أمها وهي نائمة، أتذكر أغنية فيروز يالله تنام ريما ، وأردد في سري كلماتها يا بياع العنب.. العنبية.. قولوا لأمي.. قولوا لبيي.. خطفوني الغجر من تحت خيمة مجدلية .. أصدق كلام أمي عن النور ، لكنني لا أخاف منهم. أيلول الحزين يرسل أول زخات المطر.. ورائحة الأرض الرطبة تعبق حباً في القلب.. سأعود إلى المدرسة في هذا الشهر.. سأسير كل يوم في الطريق نفسها، ألقي تحية الصباح على رجية ، أشم رائحة مناقيش الزعتر التي تخبزها على التنور، لأمضي وأنضم إلى قافلة رفيقاتي البنات. في تشرين الأول، يرحل النور . تقطف الكرمة.. تصنع النساء الزبيب، يجففن التين، يصنعن مربى التفاح والسفرجل، ويخبئن القمح لأيام الشتاء. في تشرين الثاني تنصب مدافئ الحطب تحسّباً للبرد،. وفي كانون الأول تأتي عواصف بلا رحمة، المدينة تنغلق على ذاتها، تنعزل مرة أخرى، أسمع صوت انهمار المطر الكثيف، أرى الصدأ الذي يتركه على الأبواب، ثمة وحل في الطريق، هناك برد كثيف. *** رجية صديقتي العجوز ماتت هذا اليوم، الأول من كانون الثاني. من سيعتني بنباتاتها؟ آخر مرة رأيتها فيها كانت منذ أيام، تقف بجوار شاب صغير يصلح لها شبابيك البيت خوفا من تسرب المطر، لن أرى رجية بعد اليوم، لن ألمحها وهي تمسك بمكنستها وتحركها وهي ترفع صوت الراديو على أغنية لوديع الصافي. ولن أشم رائحة مناقيشها المخبوزة على التنور. كثير من الوجع تحت معطفي.. الحياة شرك كبير، ولا يوجد ما يعوض الغياب. في أحلامي أرى المطر يغرق البلدة، نهر البردوني يفيض ويقتحم البيوت... كل شيء مبلل، وأجساد الأطفال خرق بيضاء مجمدة، فيما العجائز يتحولون الى هياكل متجمدة.. وكما لو أنه الطوفان. أهرب من أحلامي، أنتظر رحمة الصيف، لكن الكابوس يعود إليّ على شكل غبار كثيف يقتلع أوراق الشجر، ويدخل التراب في العيون، فتنحجب الرؤية. الخريف الهرم يجعلني أراقب النملات وهي تنقل بقايا الحبوب الى جحورها... صوت جنادب النهر يرتفع عند المساء. كم مضى على موت رجية .. لم أعد أعرف. ربما أشهر.. ربما أعوام. الحياة تمضي، والمطر يبدل ثيابه مع كل شهر، وأنا لم أعد أنتظر رسالة صغيرة تأتي في مغلّف أبيض.