لعلّ مجموعة «الرهوان» الشعرية للسوري عبدالله الحامدي (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر) واحدة من المجاميع التي تحضر فيها عناصر الجدلية الفنية، أسلوباً ولغة، حضوراً سلسًا من دون نزوع منها نحو التكلّف في بناء الصورة أو الإيغال في رمزية مفرداتها، وهما أمران بالغت فيهما مجموعة كبيرة من القصائد العربية الحديثة فأدخلاها إلى خانة الغموض والاستغلاق ونَفَّرا منها قُرّاءها. اتخذ كتاب «الرهوان» من الحبّ والمرأة والمدينة والرحلة والحرب والحزن ثيمات فرعيّة لنصوصه، حيث لا يَخفَى وكدُ الشاعر في تعامله مع كلّ ثيمة منها تعاملاً انصبّ على تفكيكِ مظاهر بداهتها في المتصوَّر الجماعي، وحَفْزِها على الحلول بمحلّات تخييلية جديدة تتخلّص فيها من ثِقل الغنائيات ومن فجاجة الخطابيات لتقول لقارئها كلَّ قولِها وتغمره بلُطف استعاراتها. وبمقدار ما تختلف طرائق حضور هذه الثيمات بكلّ تفاصيلها في نصوص الحامدي نلفيها تتضافر مع بعضها بعضاً وتأتلف كلها لترسم صورة كبرى لأحزان الوطن «السوري» وهو يعيش زمنَ فجيعته، ما حوّل الحزن إلى ثيمة كبرى ذات وحدة دَلالية نهض على دعامتها معمار الكتاب وانعقدت حولها غاياتُه القوليةُ. واللافت في نصوص عبدالله الحامدي تَعمُّدُه البحثَ في ممكنات المعنى الواحد جميعها، حيث يظلّ يُحاوِلُه ويُنازِلُه، ويُخلخلُ فيه مألوفَ العلاقة بين دال ومدلوله، ويفصِّلُ أجزاءَ بُنْيانِه، فلا تهدأ حركةُ ذاك المعنى إلا وقد صَفَا من شوائب المُتَردَّمِ وغادرَ نحو جديدِ بَيَانِه. وهو أمر ضَعُفَ حضورُه في بعض النصوص على غرار نصوص «عاشق عابر» و«النساء اللواتي يُشبهنك» و«المستحيلة». يفعل الشاعر ذلك عبر توظيف مائز لمجموعة من الأساليب البلاغية التي نحاول كشفَ تجلّي بعضها في متن الكتاب. ومن صور خلخلة الحامدي لمألوفِ العلاقة بين الدال ومدلوله استعمالُه للتشبيه المقلوب الذي يتبادل فيه المشبَّه به والمشبَّه مَحَلّيْهما ووظيفتيْهما على حدِّ ما جاء في هذا المقطع الذي صار فيه القمر يُشبه الجميلة الخضراء (المدينة)، وأصبح فيه البحر يغتسل بها عوضَ أنْ تغتسل هي به: «لا تغاري يا جميلتي الخضراء/ فكلّ قمر لا يُشبهك/ يغرق في البحر/ وكلّ بحر لا يغتسل بكِ/ صحراء». ولعلّ في حضور هذا التشبيه المقلوب الذي قال عنه الجرجاني: «إنه يفتح باباً إلى دقائقَ وحقائقَ، فيجعل الفرعَ أصلاً والأصلَ فرعاً»، ما يحفز قارئَ «الرهوان» لأنْ ينظرَ إلى حركة دوال النصوص وهي تتعرّى من مدلولاتها وتُفارق طبيعتَها فاقدةً في خلال ذلك هُويّتَها الأولى ونازعةً صوب هويّة دَلاليةٍ لها جديدةٍ، فإذا بالقمر يغرق في ظُلمةِ البحر، وإذا بالبحر يصير صحراء مليئةً عطشاً ولَظى. ولا نعدم في أغلب نصوص «الرهوان» وجودَ وجهٍ آخر من وجوه بلاغة أسلوبها الذي اتكأت عليه في بناء معانيها وتوكيدها وبيانها وهو ميلها إلى التفصيل بعد الإجمال، حيث يُقدِّم الشاعرُ معنى مُجْمَلاً ثمّ يعكف على تفصيله بالنظر إليه من زوايا عدة، حتى يبلغ فيه اكتمالَه. من ذلك ما نلفيه من تدرّج في بناء صورة «الحزن»، وهي الصورة الطاغية على نصوص كتاب عبدالله الحامدي، بل هي خلاصةُ دَلالاته، حيث نقرأ في أحد المقاطع قوله: «كلّ المحيطات/ دموع الذين هاجروا/ ركبوا القوارب والسفن الثقيلة/ ونسوا أنهم يطفون/ على حزن الوطن» والجليّ في هذا المقطع أنّ الشاعر وزّع معنى «الحزن» فيه على وِحْدتَيْن دَلاليتيْن لمزيد تفصيله وتوكيده أولاهما هي «كلّ المحيطات / دموع الذين هاجروا» وفيها تتكشّف لنا صورة من صور وفرة أحزان المواطنين الذي أُجبروا على مغادرة وطنهم والسفر في دموعهم التي تحوّلت إلى محيطات هي سبيلُهم الوحيدة للعبور إلى خارج هذا الوطن المنكوب. وتأتي الوحدة الثانية «(الذين هاجروا) ركبوا القوارب والسفن الثقيلة/ ونسوا أنهم يطفون/على حزن الوطن» لتكشف لهؤلاء المهاجرين حقيقة أنّ الوطن ساكن فيهم، وأنه أضحى دائرةَ حزنٍ تُحيط بهم أينما حلّوا، بل أضحى محيطاتٍ وسيعةً من دموع، وما هم في هجرتهم منه إلا سابحون في أمواج تلك الأحزان صوبَه، لكأنه قَدَرٌ لا فكاك للناس منه: يهجرونه ليُهاجروا إليه. والهجرة في أحزان الوطن، أو إليها، جاءت في نصوص «الرهوان» مصحوبة بالتيه والضياع والحيرة والعبث، إذْ تتكشّف الحرب الأهلية في صورة متاهة، يتمّ فيها الانزياح بوظيفة الحياة صوب نقيضها، فإذا هي حياة تنتهك براءة الموجودات فيها وتتغيّا شحنها بالرغبة في قتل حيوات أخرى. إنها حياة صار فيها وُجود الفرد مُرتهِنًا بإلغاء وجودِ فرد آخر لا يعرفه ولا حاجة تدفعه إلى قتله سوى عبثِية القتل ذاته على حدّ ما نقرأ في المقطع الموالي: «عجبي/ .../ طفل في الخامسة من الحرب/ يستلّ صباحاً كَعْبَ البارودة/ كي يدفع - لا يدري - ماذا عن ماذا؟». والجديد في ملامح هذه الحرب التي ترصدها نصوص الحامدي وتنتقدها هو ما تكشف عنه عبارة «طفل في الخامسة من الحرب»، إذْ نلفيها تُحيلُ على تحوّل الحرب في سوريا من نفي الإنسان للإنسان إلى شكل جديد من أشكال وجوده التاريخيّ الذي يُقاسُ فيه عمره بسنوات حربه مع الآخر وحربه مع نفسه في الآن ذاته. ويبدو أن مثل هذه المعاني ما كان لها أن تهيجَ في كتاب «الرهوان» لولا تنبّه الحامدي، كما تنبّه قبله شعراء مدرسة الدّيوان، إلى أنّ الشعر «شعورٌ ووجدان» تعضد التحامَهما لغةٌ تُجيد الإمساك بالمعنى الطارئ في لحظة حَدْسِ الذات به، وتُقدّمه الى القارئ طازجاً من دون بهرجٌ لفظيٌّ أو إيغالٌ في الغموض ما جعل كتابةَ الشعر تُحرِّر الشعر، والشاعرَ يحرّر إنسان الشاعر فيه، والمعنى يحرّر المعنى ويُمليه على الشاعر.