نحن لا نُدافع عن فيروز عندما يشتمها أحدٌ، لأن فيروز تُدافع عنّا عندما تشتمنا الحياة، وترمينا بهمومها. هي من تفتح لنا باب الصباح كما يجب أن يكون، الصباح على هيئة نرجسة أو ياسمينة، الصباح على هيئة بيت ريفي صالح للحياة. لم نختر فيروز شريكة لصباحاتنا، ولا حارسة لأرواحنا المتعبة. اختارتها لنا الأقدار كسيدة ترعى تفاؤلنا، وترمي خلسة بسلال الورد في أحضاننا بصوتها الذي يُباغت أوقاتنا كلّها، ويوجّه دفة نهارنا إلى الأمل. لم تترك فيروز طيراً ولا شجراً ولا حجراً إلا ومنحته من صوتها نشيداً، وحوّلت مفاصل حياتنا الهشّة والجامدة كلّها إلى ألحانٍ تتراقص. فلماذا يحتاج هذا الكائن الخارق إلى من يدافع عنه، ويحميه، هو الذي حمى حياتنا من التلف، والذوبان في صخب التسارع نحو الموت في ركض طويل لا ينتهي؟ عرفناها صوتا، ولم يخطر ببال أحدنا أن يرى فيها تلك الجميلة رغم جمالها. ففيروز لا تُقاس بمعايير فناني اليوم، ولا بحياتهم المكشوفة العارية. كثر منا نحن الجيل الذي رعاه صوتها لم يكن يعرف عدد أبنائها، ولا أشكالهم، ولا كيف تستيقظ تلك المرأة، في حين أنها توقظنا جميعاً. كيف تنام فيروز، وأين تقضي أيامها بين ألبوم وآخر. أسئلة لا نريد معرفة أجوبتها. كُلّ همّنا أن نستيقظ على جديدها، وكيف تحاول هذه الملاكة انتشالنا من بين عجلات السيارات ورائحة القمامة والبنزين القاتل في مدننا المزدحمة، وكيف تمزّق دفاتر وحدتنا لنعشق ونرى ونحلم ونحب؟ هنا، في هذا الزمان السوري الصعب، لا بدّ من فيروز لتصنع توازننا السرّي. فيروز التي تغنّي «بعدك على بالي» لا تترك لك فسحة للنسيان، وإذ تغني «أنا لحبيبي»، لا تتركك وحيداً مطرقاً بلا خليل. «لبيروت من قلبي سلام» تفتح لك فرجة للفرار من الأرض كلّها إلى عاصمة الحبّ بيروت، التي تلمُّ شتات الذات. «وينن»، وهي تحمل صرختنا عندما يُباغتنا الغياب وهجرة الأحباب، و»يا قمر مشغرة» و «خبطة قدمكم» أغانٍ تُعيد ذاكرة الانتصار لأرواحنا التي أتعبتها الهزائم. فيروز ليست عصيّة على النقد، وليست مُحصّنة من الأخطاء. هي مثلنا بشر، لها ما لها وعليها ما عليها. لكن فيروز مرتبطة بأرواحنا، وفي تفاصيل حياتنا الصغيرة كلّها، وقضايانا الكبيرة، وطنية وتراثية. لذا، لا تدخلوا حياتها الخاصة، ولا تحلّلوا تصرّفاتها ولا حالاتها النفسية، ولا إنْ كانت تحب ال «فودكا» أو تنتشي بفورة ال «شمبانيا»، ولا إنْ كانت تحب ابنها زياد، أو زوجها عاصي الرحباني. فيروز لنا جميعاً بكلّ ما فيها، وأهمّ ما فيها ذلك الصوت الذي يشقّ قلوبنا في الوقت المناسب، لتنتشي الفكرة الخالدة.