مؤخرا أثار د. يوسف زيدان الرأي العام بمقاربته حول قداسة المسجد الأقصى في فلسطين بالنسبة للمسلمين، من خلال تأويله إحدى الروايات التاريخية التي وردت في كتب السيرة، ليؤكد على وجهة نظر سياسية في قضية الصراع العربي الصهيوني. وهو ما أثار حفيظة الكثيرين على المستوى السياسي والتاريخي والديني، ودفعهم للتشكيك في الدوافع الحقيقية لدى د. يوسف زيدان لإثارة مثل هذا الموضوع وبهذه الطريقة، في حين يواجه الفلسطينيون أوضاعا صعبة إقليمية ودولية وينتفضون في وجه جلادهم. • رواية المسجدين الأقصى والأدنى بالجزيرة: قام زيدان بإعادة تأويل رواية تاريخية وردت في كتب السيرة "رواية عن وجود مسجدين يحملان صفة القرب والبعد أو الأقصى والأدنى بالنسبة لمكة داخل شبه الجزيرة العربية"، لينفي سمة دينية وقداسة المسجد الأقصى بفلسطين بالنسبة للمسلمين، ليستدل بذلك على رأي سياسي قد يشي بقبول الصهيونية وسيطرتها على فلسطينوالقدس، بدافع قد يبدو إنسانيا مناطه السلام والتعايش! • نقد مقاربته وتفكيكها معرفيا: والحقيقة أن د. زيدان ضرب مثالا على المفكر الشامل الذي يستطيع مقاربة الظاهرة الإنسانية بوصفها ظاهرة متكاملة، يتداخل فيها السياسي والتاريخي والديني والإنساني والفلسفي.. الخ، بصفته عالما موسوعي المقاربة يملك قدرة على فك وإعادة تجميع الأشياء. لكن يمكن أن يوجه من النقد الكثير لأطروحة زيدان كمقاربة ثقافية للصراع العربي الصهيوني، أخذت البعد الدعائي أكثر من كونها مقاربة لها أعمدة واضحة يمكن أن تصمد في وجه النقد والرد. أولا: الرد التاريخي لمقاربة زيدان ( رواية في مقابل رواية) على عكس ما قد يعتقده د. يوسف زيدان، فإن أضعف الحلقات في بناء نموذجه المعرفي لمقاربة المسألة، هو البعد التاريخي، فاختصارا اعتمد زيدان على رواية بعينها "وجود تسمية لمسجدين بالأقصى والأدنى في شبه الجزيرة العربية"، تؤكد وجود المسجد الأقصى المبارك والمقدس عند المسلمين في شبه الجزيرة العربية، وليس في فلسطين! وهذه الرواية يمكن دحضها بسهولة، باستخدام نفس المنهج التاريخي، عن طريق العديد من الروايات التاريخية الأخرى التي تنفيها وتؤكد على موقع المسجد الأقصى المبارك في فلسطين، منها رواية وواقعة "مسجد القبلتين" في المدينةالمنورة (بعد تغيير قبلة الصلاة من المسجد الأقصى للمسجد للحرام بمكة، وتغيير المصلين لوجهتهم، وهو ما كان ليحدث لو كان المقصود المسجد الأقصى الذي في الطائف، لأن الطائف والمسجد الأقصى المذكور بها يقعان في نفس الوجهة بالنسبة للمدينة المنورة جنوبا، وبما كان لا يستلزم تغيير القبلة، ووجود قبلتين!" وهناك العديد من الروايات الأخرى والأحداث الأخرى التي وردت في كتب السيرة حول "المحاججة" بين عرب قريش وبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن إعجاز سفره من الجزيرة للشام في غضون ليلة، وهم يقضون فيها رحلة طويلة، ووصف المسجد الأقصى أو المبنى الذي كان متعارفا عليه في ذلك الحين. ولا يستطيع زيدان أن يشكك سياسيا في روايات المحاججة بين الرسول وأهل قريش، لأنه حينها لم يكن هناك من سبب سياسي يدعو لذلك. ثانيا: الرد السياسي في مقاربة زيدان ( مركزية عربية في مقابل مركزية صهيونية ) تبدو المعادلة عند زيدان على المستوى السياسي وتقوم في بناء مقاربته، على وجود وجهة نظر سياسية يدعمها دليل أو شاهد! فالكلي أو الرئيسي هنا هو وجهة النظر الفكرية أو الفلسفية، والظرفي أو العابر هو الشاهد أو الدليل! أراد زيدان التأكيد على وجهة نظر ما في فكرة التعايش وقبول العرب للاحتلال الصهيوني كأمر واقع، وربما رأى أن البعد الديني للصراع الذي يتمركز حول الهيكل اليهودي أو الأقصى الإسلامي، لا بد من حله بطريقة ما، حتى يستقيم طرحه في التعايش، فاختار تفكيك الرواية والشاهد العربي الديني، في مقابل التأكيد على الرواية والشاهد الديني اليهودي! حيث قرر الخروج بتأويل ينزع القداسة عن أقصى فلسطين، ليفكك به واحدة من مشكلات الصراع والتسوية السياسية التي يراها فكريا ومن وجهة نظره، والتي هي بالمناسبة حق أصيل له، ولكن عليه في المقابل أن يقبل النقد والمراجعة والرد. وإن كانت هذه المقاربة السياسية بتفكيك الديني لصالح الصهيونية، قد تدل على رغبة عارمة ومسبقة في التأكيد على وجهة النظر السياسية ليوسف زيدان بغض النظر عن وسائل وشواهد ذلك. يمكن القول إن مقاربة الصهيونية لاحتلال فلسطين، ليست كما يتخيل زيدان تقوم على فكرة التعايش، بل هي فكرة تقوم على الهيمنة وسلب مقدرات الوجود العربي والفلسطيني، ومهما حاولت أنت التنازل أو تفكيك بنيتك الذاتية بمستوياتها المختلفة، فلن يقبل هو – بالطبيعة - سوى بسلبك كل وجودك، وتحويلك إلى حجر في بنائه. ويكون الرد على مقاربته السياسية؛ هو وجود بديل أكثر منطقية من طرحه السياسي وروايته التاريخية وتأويله الديني، فالمقاربة السياسية التاريخية التي كان يمكن لزيدان أن يعتمدها هنا، هي على عكس ما فعل تماما، وهي أن يحول العرب لمركز والصهيونية لطرف! بأن يستشهد مثلا أن قبائل بني إسرائيل التاريخية تعد إحدى البطون للقبائل العربية التي استوطنت العراق قديما، وعبرت إلى الشام، وتحولت إلى جماعة في مصر، وإلى دولة في فلسطين! فيمكنه وصفهم في هذا السياق: ب "القبيلة العربية التائهة"، التي عليها أن تندمج في محيطها العربي وتتخلى عن أطروحات المواجهة والسيطرة، سيطرة الجزء على الكل. يمكنه أن يدعوها للذوبان في المحيط العربي كبديل سياسي يرسخ لاعتناقه فكرة السلام والتعايش، كان عليه أن يدعوها للتخلي عن أفكار مركزيتها وهيمنتها على العرب، ومحاولة سلب مقدراتهم الكامنة والمستقبلية. ثالثا: الرد الديني في مقاربة زيدان: ( تجاور القداسة، وفصل السياسي عن الديني) على مستوى البعد الديني، هرب زيدان من مواجهة المعضلة الأوضح والأبرز، وكذلك هرب منها معظم من ردوا عليه إن لم يكن كلهم! هرب زيدان من مواجهة التفسير والموقف الديني من الوضع الحالي للمسجد لأقصى والبقعة المقدسة بكاملها بالنسبة للأديان السماوية الثلاثة الكبرى! إذا نظرنا للأمر من وجهة النظر الدينية سنجد أن الأطر الكلية لمقاربة المسألة دينيا تدور في المحاور التالية: - أسري بالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) لبقعة كانت لها القداسة من قبل بالفعل. - يؤمن المسلمون بأنبياء بني إسرائيل عليهم جميعا السلام، وهناك عبادات أقرت على المسلمين اقتفاء لأثر النبي موسى عليه السلام. - علاقة اليهود بالمسجد الأقصى والبقعة المباركة قبل الإسلام تكاد تكون مثبتة في عقيدة المسلمين. وباعتبار أن أنبياء بني إسرائيل عرفوا هذه المنطقة المقدسة قبل المسلمين ومارسوا فيها شعائرهم. - يمارس اليهود طقوسهم الدينية عند ما يسمى ب "حائط البراق" منذ فترة طويلة وبعد تخريب الهيكل. - المسجد الأقصى بشكله الحالي، ورد في الأثر والروايات التاريخية أنه بني في العهد الأموي. - حين استلم عمر بن الخطاب مفاتيح القدس، وجد بعض المخلفات في البقعة المقدسة، ورفعها. - يحاول اليهود البحث في المنطقة عن حفائر تدل على الهيكل الديني القديم الخاص بممارسة شعائرهم الدينية. نستنتج مما سبق أن ما هو مقدس واقعيا عند اليهود هو "حائط المبكى" حيث يقيمون الشعائر حوله، وما هو مقدس عند المسلمين هو البناء الذي أصبح متعارفا عليه بالمسجد الأقصى والذي بني بشكله الحالي في العهد الأموي، كما للمسيحيين بالمكان كنيسة القيامة! إذن استقرت المقدسات الدينية عند الأديان الثلاثة في البقعة المقدسة في ثلاثة أماكن مختلفة وتجاوروا لا تنازع بينهم! من طرف المشكلة في علاقة الديني بالسياسي؟ حفائر الصهيونية! وتصبح المشكلة الآن فيمن يحاول البحث عن أدلة تاريخية تؤكد حقه في الاستيلاء على كامل المكان وسيطرته السياسية عليه! العرب لا يخلطون الديني بالسياسي د. يوسف! إن العرب واليهود والمسيحيين مستقرة أماكن شعائرهم في البقعة المقدسة! لكن الذي يخلط الديني بالسياسي هم يهود الصهيونية، الذين يحاولون البحث عن وجود تاريخي في كامل البقعة المقدسة وينقبون أسفل المسجد الأقصى ليثبتوا حقهم في طرد المسلمين والعرب وربما المسيحيين العرب بالمرة! الرد الديني الذي كان يمكن للدكتور زيدان أن يعتمده ويصبح أكثر موضوعية؛ هو استقرار أماكن المقدس الديني في الديانات الثلاث، وحق الجميع في التجاور، والوجود بالبقعة المقدسة ب "حائط المبكى" وب "المسجد الأقصى" وب "كنيسة القيامة"، وانه يجب الفصل بين ما هو سياسي تسعى من خلاله الصهيونية للسيطرة على المكان وفرض هيمنتها عليه، وإزاحة الآخر العربي المسلم وربما المسيحي! • خاتمة: بناء الذات أم الاستلاب للآخر نعيش في مرحلة شديدة الارتباك تاريخيا، نعاني من غياب النمط والمشروع الحضاري الذي تلتف حوله البلاد والمنطقة العربية وتواجه به العالم، ويكون من الواجب على أصحاب العقول الإدلاء بما لديهم من أفكار وتصورات للخروج من المأزق الراهن للوجود العربي في مواجهة العالم! لكن المقاربة التي قدمها زيدان في إطارها الكلي بعد تفكيك أبنيتها الجزئية تقوم على "الاستلاب" للآخر وقبول هيمنته في مقابل تهميش الذات وسحقها والدعوة لذوبانها في الآخر. ربما تكون النية عند د. يوسف زيدان هي البحث عن مخرج ما من أزمة حضارية وتاريخية ألمت بالعرب والبلاد، ولكن الذي يطرحه زيدان ليس سوى لب الهزيمة والانسحاق في ذيل الآخر. كان الأولى أن يقدم قراءات فلسفية ومعرفية لعلاقة الثورات العربية الوليدة، بمقاومة الاحتلال، وعلاقة النمط الحضاري الغائب باستعادته من خلال أبنية جديدة تلوح في الأفق، وعلاقة ذلك النمط الحضاري الكامن بهيمنة الآخر الإقليمي والدولي على المنطقة! كان على د. زيدان أن يهتم ببناء الذات في مقاربته، لا أن ينشغل بحلول تسلب وجود الذات العربية الكامن/الأزمة، ويدعوها للذوبان في نمط حضاري آخر تمثله الصهيونية وتفعل كل ما في وسعها لتثبيت المشهد الأزمة وأبنيته، ومنع المستقبل الكامن والمشرق بنمطه الحضاري المنتظر والمقبل. .......... د. حاتم الجوهري باحث في الصراع العربي الصهيوني