في "روائح ماري كلير" الصادرة لدى "دار الآداب"، يقدّم الروائي التونسي الحبيب السالمي نموذجاً للحب في شكله المديني المعاصر، في رؤية تقطع مع الفكر التقليدي المتعلّق بالحب، والمحمَّل مسلَّمات لم تعد تجد لها مكاناً في عالم تزداد فيه المسافة بين الأفراد اتساعاً، وتتحوّل طبيعة العلاقات بينهم، متّخذة ابعاداً جديدة. هذا في المستوى الاوّل، اما في المستوى الثاني فيجعل الكاتب من علاقة محفوظ التونسي وماري كلير الفرنسية مسرحاً لصراع الحضارات الشهير في تجلياته الاكثر حميمية واشكالياته الاكثر تأزّماً وغلياناً، مقترِباً من هذه العلاقة من باب التفاصيل اليومية النافلة والعادية التي تقدّم بتراكمها صورة أصيلة ومفاجئة عن صراعٍ يُختزَل في معظم الأحيان الى عناوينه العريضة وحدها. مثنى الأنا على طول الصفحات ال223، نتابع قصة الحب هذه من لحظة اللقاء الاولى الى انتهاء العلاقة، مروراً بكل تفاصيل التعرّف الى الآخر في سلوكه وعاداته وتقلّبات شخصيته وتحوّلاتها وعلاقتها بما حولها، وما تشهده هذه العلاقة من لحظات ذروة وفتور، انجذاب ونفور، خصومات وشهوات ومصالحات، في اتجاهها صوب التداعي الأكيد والحتمي والطبيعي، بفعل اصطدامها برتابة الحياة اليومية. يروي الكاتب انطفاء الشهوة ويعاين الحب الذي يخبو على مهل بعدم أن يصير من المستحيل رأب الصدوع التي تظهر فيه، بينما لا يبقى في النفس الا شعور غريب هو مزيج من الالم والارتياح، واقتناع بأن "ليس هناك ما هو اكثر هشاشة من علاقة حب بين رجل وامرأة"، ولا شيء "اكثر غموضاً وتعقيداً وتقلّباً" منها. في كل سطر من الرواية، يؤكد الحبيب السالمي ان علاقة الحب هي في الدرجة الاولى صراع بين أنوَين (مثنّى الأنا)، لتحديد المسافة بينهما، يفرضه القرب اليومي والحميم من الآخر وأغراضه وطقوسه وعاداته الصغيرة. كما لو ان الحب نفسه ليس في النهاية الا اعتداء على الأنا في مساحتها الخاصة. اعتداء على ذاكرتها ايضاً وخصوصاً. من جهة ثانية، فإن كل تفصيل في الحياة اليومية بين هذا التونسي القادم من قرية المخاليف في الريف التونسي والذي يعيش في باريس، وماري كلير الباريسية المولودة في مينيلمونتان، اللذين يعيشان تحت سقف واحد، يتحوّل عنواناً لمواجهة صامتة بين عالمين: الاول ريفي مغرق في بدائيته، والثاني مديني تحكمه وثنية حديثة. مواجهة بين حضارتين وثقافتين، ستتبيّن في ما بعد استحالة التعايش بينهما، لكنها ستتجلّى قبل ذلك في أبسط الامور وأكثرها عادية: من العلاقة بالطعام والعناية بالنباتات المنزلية، الى احتفالات الحياة الصغيرة وطقوسها، فالعلاقة بالجسد الشخصي وجسد الآخر، تصوّراً وسلوكاً ورغبات واستيهامات. فمحفوظ الذي وُلد في "دوار لا يتحدّث فيه الناس عن الطعام الا ليقولوا انه نعمة ربّي"، سيظل عاجزاً عن فهم الاحتفال الجماعي بالطعام الخالي من كل تواضع واحتشام، والذي يكمن في ارتياد المطاعم، بينما ترى ماري كلير في ذلك طقساً جميلاً وعنواناً للاحتفال بالحياة. هكذا ايضاً لن يفهم محفوظ ما تسمّيه هي "الخروج" او الفرح بالعطلة، تماماً كما لن يستوعب تعلّقها الشديد بالنباتات التي لا يرى هو فيها "سوى مجموعة من اوراق واغصان وسيقان دقيقة لا جدوى منها". رجل يتعلّم الحب الا ان أبرز تجليات هذا الصراع ستبرز في الجسد قبل كل مكان آخر، وفي العلاقة به والنظرة اليه وكيفية تفاعله مع جسد الآخر. هكذا نعاين تحوّل الجسد من ريفيته البدائية الى مدينية تفرض تعايشاً مختلفاً مع الرغبات والغرائز والشهوات. اهم ما في هذه النقطة، ان الجسد المُتناوَل هو جسد ذكوري هذه المرة. انه جسد الرجل الذي يوضع هنا تحت المجهر. وبعدما كان يُقدَّم في الغالب في دور المعلّم والعارف والملقِّن ازاء جسد المرأة الجاهل والحاضر دوماً لاستقبال تعاليمه، يطرح الكاتب هنا صورة مغايرة لعلاقة الرجل بجسده لا تقل تعقيداً عن علاقة المرأة بجسدها. في هذه الصورة تنقلب الادوار: يصير الرجل هو صاحب الجسد "البكر" اذا جاز القول، لا يعرف عنه الا القليل والبدائي الذي سمحت له باكتشافه بيئته الريفية التي يتحدر منها. في علاقة محفوظ بماري كلير، يبرز خطاب الرجل الذي يتعلّم الحب ويتعلّم جسده على يدي امرأة عادية، في اختبار يطاول العواطف والغرائز بقدر سواء. هو الرجل هذه المرة يتحدث عن "اول امرأة حقيقية في حياتي" وعن "فترة تدرّب طويلة علّمتني خلالها ماري كلير اشياء جعلتني اكتشف طاقات وخصائص في الجسد كنت أجهلها". فلو انتزعنا مقطعاً كالآتي من سياقه، "كأن جسدي يولد من جديد. أحسه يتخلص من كل ما يكبله ويشله. والحرمان الذي تراكم فيَّ طوال اعوام يذوب كالثلج. الا ان المثير حقاً هو اني صرت ارى جسدي بشكل مختلف. أتلمسه بدون اي احساس بالحرج. انظر اليه بدون خجل. أتحدث عنه بجرأة وبدون مواربة"، وعرضناه على ايّ قارئ، فسيظن فوراً ومن دون تردد ان المتحدث امرأة تصف تصالحها مع جسدها وولادته الثانية. لكن لا. هو الرجل هذه المرة يحمل خطاباً من هذا النوع، ويفعل ذلك بتلقائية وعفوية كبيرتين. ربما من المبالغة تحميل نهاية الرواية التي تنتهي بانفصال محفوظ وماري كلير أكثر مما تحتمل بإعطائها بُعداً ايديولوجياً وإحالة الانفصال على "صراع الحضارات" كما سيتجلّى في علاقتهما. الا اننا من جهة اخرى، وفي استنتاج مثل الذي سيخلص اليه محفوظ، بعد قراره التخلّص من النبتة الوحيدة التي تركتها له ماري كلير، بإدراكه انه "عاجز عن رعاية مثل هذه الاشياء الحساسة لفترة طويلة"، لا يسعنا سوى ان نقرأ استعارة بليغة للحب الذي لن نعرف اذا كان انطفاؤه هو سبب عودة الفروقات الثقافية بين محفوظ وماري كلير الى السطح عميقة وصعبة، او ان هذه الفروقات هي السبب في القضاء عليه.