التراث هو الأساس الذى يقوم عليه بناء الأمم والدول وبدونه تكون هشة أو ضعيفة، فالماضى أساس الحاضر والمستقبل، وتاريخنا العربى والإسلامى يحوى تراثاً لا نظير له يؤكد عظمة أمتنا وتقديسها للعلم والعلماء ودورها فى بناء الحضارة الأوروبية وتأثرها بالحضارات الأخرى أخذاً وعطاء، وفى ظل ما نعانيه من تطاول الأمم علينا، والتسابق لتشويه صورتنا وحضارنتا المجيدة يصبح إزاحة الستار عن ماضينا فى غاية الأهمية خاصة وأنه تراث كبير جداً، ولنا أن نتخيل أن فى مصر وحدها يوجد أكثر من 110 ألف مخطوط تحوى دار الكتب والوثائق المصرية منها 57 ألف مخطوط من أقيم وأنفس المخطوطات العالمية وهى أما بخطوط مؤلفيها أو بواسطة علماء آخرين. وهنا سنقصر حديثنا على بعض من عمالقة التراث الحضارى الإسلامى الذين قدموا مجموعات مخطوطية ما زالت تثير دهشة العالم المتحضر حتى الآن. ومن أبرز هذه المخطوطات مجموعة رفاعة الطهطاوي، وهو رائد النهضة الفكرية الحديثة فى مصر، والبلدان العربية المجاورة، فقد استطاع هذا الرجل أن يفتح ألف نافذة على العالم الأوروبي، دون أن يسمح لرياح التغريب أن تقتلعه من جذوره. وقد ولد رفاعة فى بلده "طهطا " عام 1216 ه/1801م، فى محافظة سوهاج الواقعة وسط صعيد مصر، حيث درس علوم الدين فيها، ثم رحل فى السادسة عشر من عمره إلى القاهرة، ليتابع دراسته فى الأزهر الشريف، وبعدها بنحو خمس سنوات تولى التدريس فيه لمدة عامين، ثم رشحه أستاذه حسن العطار ليكون إماماً للبعثة، التى أرسلها محمد على باشا إلى باريس عام 1242 ه/1826م لدراسة العلوم الحديثة، إلا أن رفاعة طلب الانضمام إلى البعثة كدارس فيها، فتم ضمه إليها لدراسة الترجمة. أمضى بعدها خمس سنوات فى تعلم اللغة الفرنسية، وبعدها قدم مخطوط كتابه الشهير "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز"، والذى قدم فيه قراءته الخاصة لواقع الحياة الأوروبية من خلال مشاهداته لمدينة باريس. وبعد عودة رفاعة إلى مصر عام 1247ه/1831م، بدأ حملة التعريف بالحضارة الأوروبية من خلال ترجمة أمهات الفكر الأوروبي، وقد افتتح عام 1251ه /1835م مدرسة الترجمة التى صارت تعرف فيما بعد ب "مدرسة الألسن"، حيث عين مديراً لها، إلى جانب عمله كمدرس بها، كما بدأ فى جمع الآثار المصرية القديمة، واستصدر أمراً لصيانتها ومنع تهريبها إلى الخارج. كما أنشأ رفاعة أيضاً مدرسة المحاسبة لدراسة علوم الاقتصاد، ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية، واستصدر قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية، والتى تدرس اليوم باللغات الأجنبية، كما أنشأ مكاتب لمحو الأمية، ونشر العلم والمعرفة بين الناس، وأصدر جريدة "الوقائع المصرية" باللغة العربية بدلاً من التركية. وفى عام 1280ه/1863م تجلى مشروعه الثقافى الكبير، حيث وضع أساس حركة النهضة والتحديث فى مصر من خلال مؤلفاته الإصلاحية، التى صارت بعد عشرات السنين إشكالاً نصوغه ونختلف حوله من جهة الأخذ بالتراث العربى أو الأصالة أم المعاصرة ؟! مخطوطات نادرة وقد توفى رفاعة عام 1290ه/1873م بعد أن ترك ما يقرب من تسعمئة ألف مخطوطة يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات الأولى منها تضم النسخ المعرفية الحقيقية، التى تمت كتابتها قبل ألف عام كاملة، والثانية تضم النسخ الفريدة النادرة، التى يصعب أن نجد لها نظيراً فى أى مجموعة خطية أخري، فكل مخطوطة فيها مكتوبة أو مزخرفة بخط يد مؤلفها، ومن ثم تعد بمثابة "بصمة" لا يمكن تكرارها حتى لو تكرر الناسخ أو موضوع الكتاب، أما الثالثة فهى المجموعة الخاصة التى تضم كتابات رفاعة الطهطاوى وشيخه حسن العطار، ومن قبلهما الشيخ أحمد الدمنهوري، وقيمة هذه المجموعة تنبع من أهمية مؤلفيها ودورهم فى تأسيس نهضتنا المعاصرة! ومن ضمن الوثائق النادرة المكتوبة بخط رفاعة، وثيقة كتبها لزوجته حين طلب يدها للزواج منها متعهداً فيها بالآتي: التزم كاتب الأحرف لكريمة بنت العلامة الشيخ محمد الفرغلى الأنصارى أن يبقى معها وحدها على الزوجية، دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أياً كانت، وقد علق عصمتها على أخد غيرها من النساء أو التمتع إحدى الجواري، فإذا تزوج بغيرها كانت ابنة خاله بمجرد العقد خالصة بالثلاثة، وقد وعدها وعداً صحيحاً لا ينقضى ولا يخل إنها ما دامت تحفظ حقه على المحبة المعهودة فقيمة على الأمانة، والحفظ لبيتها وأولاده ساكنة معه فى محل سكنه، فإنه لن يتزوج بغيرها، ولن يخرجها من عصمته حتى يقضى الله لأحدهما بقضاء، أما إذا فعل المذكورخلافه، كان الله تعالى هو الوكيل العادل للزوجة المذكورة يقتص لها منه فى الدنيا والآخرة، وكذلك إن أتعبته فهى الجانية على نفسها، وقد ذيله فى الختام بتوقيعه والتاريخ، الذى تم تدوينه فيه يوم 14 شوال من عام 1255 ه. أبو العباس المرسى وهناك مخطوط لأبى العباس المرسىبالإسكندرية، وهو شهاب الدين أحمد بن عمر بن على الخزرجى البلني، أحد كبار صوفية الإسلام ، والذى اشتهر بكنيته - أبو العباس - وبلقبه "المرسي" نسبة إلى بلده مرسيه، التى ولد بها عام 616 ه، وبعد أن تزود بعلوم عصره كالفقه والتفسير والحديث والمنطق والفلسفة، سافر بعدها إلى تونس 640 ه، حيث التقى بالصوفى الأشهر أبى الحسن الشاذلي، الذى تلقى على يديه التصوف، وتزوج بابنته. وفى عام 642 ه، وصل أبو العباس مع شيخه الشاذلى إلى الإسكندرية، حيث استقر بحى كوم الدكة، واختار المسجد المعروف اليوم بجامع العطارين بالاسكندرية، والذى كان يعرف وقتها بالجامع الغربي، لتلقى الدروس العلمية والمجالس الصوفية، التى كان يحضرها جمع غفير من خواص الإسكندرية وعوامها. وقد كانت الإسكندرية فى هذا العصر مدينة متميزة ذات مكانة علمية خاصة، فقد حفلت من قبل الشاذلي، والمرسى برجال عظماء، حطوا رحالهم فيها وأقاموا عدداً من المدارس العلمية، أمثال الطرطوسي، ابن الخطاب الرازي، الحافظ أبو طاهر السلفي، وكان صلاح الدين الأيوبي، يحرص على قضاء شهر رمضان من كل عام فى الإسكندرية، لجمع الحديث النبوى من الحافظ أبى طاهر السلفي. وقد تولى أبو العباس مشيخة الطريقة الشاذلية بعد وفاة أبى الحسن الشاذلى عام 656 ه، وكان عمره آنذاك أربعين عاماً، وقد ظل يحمل لواء العلم والتصوف حتى وفاته عام 686 ه، بعد أن أمضى نحو أربعة وأربعين عاماً فى الإسكندرية سطع خلالها نجم الطريقة الشاذلية فى الآفاق، وقد دفن أبو العباس فى الموضع، الذى يحتله اليوم مسجده الكبير بالإسكندرية، وكان هذا الموضع وقت وفاته، جبانة يدفن فيها الأولياء، وقد أقيم عام 706 ه، بناء على مدفنه حتى يتميز عن بقية القبور من حوله، وصار مزاراً للناس، ثم صار مسجداً صغيراً بناه زين الدين القطان، الذى أوقف عليه أوقافاً، وقد أعيد بناء هذا المسجد وترميمه وتوسيعه عام 1189 ه. وفى عام 1362ه/1943م أعيد بناء مسجد أبى العباس، الذى يعد أحد أكبر مساجد الإسكندرية، وقد قام ببنائه وزخرفته المهندس الإيطالى ماريوروس الذى لم يلبث أن أعلن إسلامه، وحول المسجد توجد عدة مساجد مجاورة منها:البوصيرى ياقوت العرش، الموازيني، الواسطي، وغيرهم من الأولياء، والتى صارت تعرف حالياً بميدان المساجد. والمسجد كان يحوى مكتبة بدأت عامرة، ثم آل أمرها إلى الاضمحلال ففى عام 1321ه/1903م أوقف الحاج على شتا مجموعة كبيرة من الكتب والمخطوطات لتكون نواة لهذه المكتبة، ثم زودها الخديوى توفيق بمجموعات أخري، وضمت إليها مكتبة مشيخة العلماء بالاسكندرية، التى كانت تحوى نحو 6550 مخطوطاً، ومنذ عدة سنوات قامت وزارة الأوقاف المصرية بجميع كافة المخطوطات الموجودة فى مساجد الإسكندرية، وتم إبداعها فى مسجد أبى العباس، وقد أطلق عليها اسم مكتبة التراث الإسلامي، إلا أن هذه التسمية لم تشتهر وظلت تعرف حتى اليوم بمكتبة أبى العباس المرسي، ويقدر عدد مخطوطاتها بنحو 401 مخطوطة وصلت بعد فهرستها إلى ثلاث آلاف مخطوطة من نوادر المخطوطات ومعظمها فى علوم اللغة، والدين، والتصوف، والتفسير، والسيرة، والتوحيد، والحديث، فضلاً عن مجموعة من الرسائل العلمية والمخطوطات النادرة التى كتبها مؤلفوها بأيديهم، مثل حاشية كلمة التوحيد لشيخ الأزهر إبراهيم الباجوري، والتى كتبها عام 1220ه قبل وفاته عام 1277ه وبسبب قرب المسجد من البحر، والذى يشرف عليه من فوق ربوة عالية، فقد أدى إلى أن تصبح المخطوطات المحفوظة فيه عرضة للتلف بسبب الرطوبة العالية، وهو الأمر الذى قد يهدد باندثارها، ويتم حالياً جمع جميع المخطوطات الأصلية النادرة لحفظها فى المبنى الجديد فى باب الخلق بالقاهرة فى جو يحفظها من الاندثار والتلف، بينما يتم عرض صورة طبق الأصل منها على الباحثين وطلاب العلم. مخطوطات أخرى وهناك كذلك مخطوط لجامع الشيخ وهو الجامع الذى عرف فى القرن التاسع عشر باسم "أزهر الإسكندرية" حيث كان أحد أكبر فروع الأزهر الشريف خارج القاهرة، وقد ظل يمارس عمله فى الدراسة والإجازة الأزهرية لعقود طويلة، ولذا كان من الطبيعى أن تتراكم فيه مئات المخطوطات خلال عقود نشاطه وعمرانه، قبل أن يسقط فى هوة النسيان وينزوى فى أيامنا الحالية. وكانت توجد فيه نحو 1814 مخطوطة بالإضافة إلى 67 مخطوطة وغير مسجلة، تضم سائر الفنون وعلوم الدين والدنيا وتعد من أقدم وأندر المخطوطات على مستوى العالم. ومن المخطوطات الطبية هناك مخطوط من كتاب "رسالة فى علاج الأمراض بالأغذية والأدوية" للرازى المتوفى عام 313 ه/925م، وهو مكتوب بالحبر الأسود، مع بعض الكلمات المكتوبة بالحبر الأحمر، ويشتمل الكتاب على سبعة وثلاثين باباً يهتم كل منها بنوع من الأمراض وطريقة علاجها باستخدام النظام الغذائى أو الأدوية، مثل: الصداع والصرع والنسيان وفساد العقل وعلل العين وغيرها. والمخطوط يدل على سعة إطلاع كاتبه، الذى قدم لنا معلومات طبية دقيقة حول العديد من الأمراض البدنية والنفسية والعقلية التى صنفها تحت اسم فساد العقل!. وهناك مخطوط من كتاب "عيون الأنباء فى طبقات الأطباء"، لابن أبى أصيبعة، وهو مكتوب بالحبر الأسود والأحمر، على أرضية بيضاء بالخط النسخ، وقد قدم فيه المؤلف سيرة ما يقرب من 400 طبيب، من مختلف العصور، وحتى منتصف القرن السابع الهجري، قام بعدها بعرض مؤلفاته بشيء من التفصيل، ثم انتقى بعض أقواله وآرائه، التى تتضح بها نظريته فى الطب وطريقته فى المعالجة، والمخطوط يدل على دراية مؤلفه الواسعة بالطب اليونانى والهندي، من خلال عرضه بعض التفاصيل العلمية، والاجتماعية وكذا عرضه المدارس الطبية الموجودة فى العالم الإسلامي