إن الفكر البشري يجب أن ينظر إليه كأنه كائن ينمو ويتطور علي مراحل متعاقبة تعتمد كل منهما علي سابقتها. وتاريخ العلوم كتاريخ الحضارة البشرية بأكملها. يمر في دورات متلاحقة. وينتقل من أمة إلي أخري. ليصبح في النهاية تراثا مشتركا للإنسانية كلها. وإذا كان يوجد بين مؤرخي العلم والحضارة من يصر علي تأريخ العلوم بالعصر الإغريقي وعصر النهضة الأوروبية فقط. فإن هؤلاء يغمطون حق الحضارات القديمة الرائدة التي قامت في مصر وبلاد ما بين النهرين وفارس والهند والصين. كما انهم يهملون عصر النهضة الإسلامية الزاهرة. وذلك إما عن جهل بها واستخفاف بأهلها وإما لمآرب أخري لم تعد خافية علي أحد. فالحضارة اليونانية كما رأينا لم تكن لتنهض من فراغ أو بمعزل عن الحضارات السابقة عليها. كما ان تراثها قد مهد بلا شك للدور الذي قامت به الحضارة الإسلامية في دفع مسيرة الحضارة الإنسانية والانتقال إلي عصر النهضة الأوروبية الحديثة التي مهدت بدورها لقيام حضارة القرن العشرين. ومهما كانت دوافع المؤرخين غير المنصفين إلي هذا فإننا يجب أن ننحو باللائمة أولا وقبل كل شيء علي أصحاب هذا التراث. فقد مضي زمن طويل أهملنا فيه نحن العرب والمسلمين تراثنا العلمي في مختلف جامعات العالم بحجة ان التراث القديم لا يعنينا ولم يعد يفيدنا في شيء. وان ما فيه من آراء ونظريات علمية يعتبر الآن بدائيا ساذجا لا يلائم الحياة المعاصرة. وهذا الاتجاه تجب مقاومته ويجب عدم الترويج له لأنه يشكل خطرا علي مستقبل الأمة العربية والإسلامية التي تحاول الآن أن تخرج من عصر التخلف عن ركب الحضارة. وإن استقراء التاريخ ليشهد بأن الأمم التي تشرع في النهوض من كبوتها تبدأ أولا بإحياء تراثها وتراث الحضارات المتصلة بها.. هكذا فعل العرب في عصر النهضة الإسلامية وهكذا فعل الغربيون في عصر النهضة الأوروبية حتي في عصرنا الحاضر تحرص جامعات الدول المتقدمة علي تدريس تاريخ العلم وفلسفته. وتضم العديد من المستشرقين الذين يواصلون البحث في تراث الأقدمين. ويولون أهمية خاصة للتراث العلمي للحضارة الإسلامية ولولا جهود المنصفين من هؤلاء المستشرقين والمؤرخين لما عرفنا شيئا عن إسهام أسلافنا في تقدم العلوم الطبيعية الأساسية من كيمياء وفيزياء ونبات وحيوان ورياضيات وفلك وتطبيقاتها في الهندسة والطب والصيدلة والزراعة والتعدين وغيرها خصوصا وان هذه العلوم لم تلق من الباحثين نفس العناية والاهتمام اللذين حظيت بهما العلوم الإنسانية والعلوم النقلية الأخري.