رحل رشدي أباظة عن عالمنا في 27 أغسطس من العام 1980، هذا النجم الوسيم كانت المصادفة وحدها ، وراء دخوله في مجال الفن ، خاصة وأنه ينتمي إلى أسرة عريقة ومحافظة على التقاليد الأرستقراطية ، وبذلك شق الوسيم طريقه في الصخر ، وحفر اسمه بالعرق والجهد ، حتى تبوأ مكانة عالية بين نجوم جيله ، ولا يزال المشاهد العربي في كل مكان ، يحمل في ذاكرته أصداء الأدوار المتميزة ، التي قام بها رشدي أباظة ، طيلة مشواره الفني الذي تجاوز ربع قرن أو يزيد . وقبل الدخول في تفاصيل مشوارة الفني ، سنتوقف قليلاً ، لنقلب صفحات التاريخ ، ونتعرف علي جذور العائلة (الأباظية) ، التي ساهم أفرادها بدور بارز ومؤثر في الحياة المصرية والعربية ، ومن بينهم عزيز أباظة الشاعر المبدع صاحب الريادة في اقتحام المسرح الشعري ، والكاتب الصحفي الشهير فكري أباظة صاحب القلم الساخر ، والروائي ثروت أباظة ، وماهر أباظة وزير الكهرباء والطاقة الحالي ، وغيرهم الكثير في مجالات السياسة والأدب والفن .. ولذلك كان دخول رشدي أباظة إلى عالم السينما ، محفوفاً بالمخاطرة ، في وقت كانت النظرة فيه إلي الفن والفنانين ، أنهم من طبقات دنيا ، ولا يرقون إلي العاملين في مجالات أخريىكالهندسة والطب مثلاً . تاريخه العائلي ولد رشدي أباظة بالقاهرة في 3 أغسطس عام 1927 ، وكان أبوه ضابطاً بالبوليس المصري، ووالدته من أصل إيطالي اسمها "لوجي" اشتهرت بعد ذلك باسم ليلى أباظة ، وكان رشدي يهوي الرياضة ويمارس الملاكمة ، ونال تعليمه الأول في مدرسة شبرا الابتدائية ، ثم حصل على البكالوريا من مدرسة سان مارك بالاسكندرية ، بعد ان انتقلت العائلة إلى هناك ، وأجاد رشدي اللغة الإيطالية من والدته ، والتي طلقت من والده ، وأقام معها في بيت جده خلف سينما (أوبرا) بميدان العتبة ، وفي ذلك الوقت افتتحت والدته مطعما كبيراً وشهيراً للمأكولات الإيطالية ، وكان يرتاده نخبة من نجوم المجتمع . وقد تنازعت الفتى حياتين الأولى مع والدته وجده وأخواله الإيطاليين ، والأخرى مع والده المصري الصميم ، والذي ترجع جذوره إلى (الأباظية) أو الأباظة ، كما ورد ذكرهم في "تاريخ الجبرتي" والذي كتب يقول : إنهم جاءوا إلي مصر ضمن القوات والجنود التي أتت إلي مصر ، لتحل محل قوات عثمانية أخري ، أو لتقوية الدفاعات عن القطر المصري ، ومع مرور السنين تغلغلت في المجتمع المصري ، وأقامت شمالي اقليم بلبيس - ضمن عرب العبابدة ، واستطاع كبير الأباظية في زمن محمد علي - حسن أغا أباظة - أن يكون اقطاعيات له ولأسرته ، وعينه ابراهيم باشا إبن محمد علي - شيخ مشايخ تصرف المديرية الشرقية" .. وهكذا استقرت (الأباظية) في مصر ، واكتملت لديهم تقاليد وأخلاق الأسر العريقة . فكيف انفلت الحفيد من تقاليد الأسلاف وامتهن حرفة التميل ؟.. كان رشدي أباظة دائم التردد على مطعم والدته ، وهناك كان يجتمع نخبة من نجوم الفن والسياسة والأدب ، والتقي بالمخرج حلمي حليم الذي طلب منه العمل بالسينما ، ولكن الشاب لم يأخذ كلام (حليم) مأخذ الجد ، حتى رآه المخرج كمال بركات شقيق المخرج هنري بركات ، وهو يلعب (البلياردو) ، وتكرر العرض مرة أخري ، ثم وجده أمامه المخرج عز الدين ذو الفقار يطلب منه المرور عليه في الاستوديو ، وبالفعل اسند له دورا صغيرا في فيلم "المليونيرة الصغيرة" عام 1948 ، أمام فاتن حمامة ، لتتابع أدواره الثانوية في السينما ، وتبدأ معها سلسلة من المتاعب والمصادمات العائلية . في ذلك الوقت كان رشدي يعمل في هيئة قناة السويس ، لإجادته اللغات الانجليزية والفرنسية والايطالية والالمانية والأسبانية ، وكان يتقاضي راتبا شهريا قدره خمسين جنيهاً ، وهو مبلغ كبير ، وقد حاول رشدي أن يوفق بين عمله وهوايته ولكن رفض والده دخوله مجال التمثيل ، حسم التردد في داخله ، فقرر أن يهاجر إلى إيطاليا وهناك تردد على استوديوهات السينما ، وشارك في ستة أفلام ايطالية ، بأدوار ثانوية ، ثم عاد بعدها إلي مصر وقرر إحتراف التمثيل ، ليحصل على أدوار بسيطة ويحقق فيها حضوراً ، مثل "رجل لا ينام" ، "أمينة" ، حتى أصبح من نجوم الصف الأول ، أو نجوم الجيل الثاني مع صلاح ذو الفقار وكمال الشناوي وأحمد رمزي وعمر الشريف . شئ في صدري واستطاع رشدي أباظة أن يثبت موهبته التمثيلية من خلال القيام بأدوار متباينة ، تقتضي ادراك ووعي الممثل بتفاصيل وأعماق الشخصية ، فكان دوره في (امرأة على الطريق) مع هدي سلطان وزكي رستم وشكري سرحان ، دوراً مغايرا لنمط الأداء الذي يتسم بسرعة نطق الكلمات ، دون إعطاء الفرصة للغة الوجه أو الإيماءات لتشي بمكنون الشخصية ، وبذلك قفز رشدي أباظة بالفن التمثيلي قفزات كبيرة ، حين رأي أن يبرز (المكياج) الداخلي للشخصية ، مثل دور الشاب الصعيدي في (صراع في النيل) ، أو اللص في "ملاك وشيطان" والباشا في "شئ في صدري" ، وغيرهم من العلامات البارزة في تاريخ السينما العربية .. وقد أتاح التعامل مع عدد كبير من المخرجين العرب والأجانب ، أن يكتسب رشدي ثقافات متعددة ، أصقلت موهبته ومكنته من تجسيد الشخصيات بتلقائية وصدق كافيين لإقناع المشاهد واندماجه مع أحداث الفيلم ، وبذلك رشحه مخرجون من أمثال كمال الشيخ وصلاح أبو سيف وعاطف سالم وبركات للعديد من بطولات أفلامهم .. ولم يتوقف عطاء رشدي أباظة عند حدود السينما المصرية فقط ، بل ساهم في السينما اللبنانية والسورية بعدة أفلام مثل "نار الشوق" مع صباح والمخرج محمد سلمان ، فقد جمع الفنان بين ألوان عديدة ، وجسد الأدوار الكوميدية والتراجيدية ، وكانت أفلامه تحقق أعلى الايرادات مغامرات عاطفية تعددت زيجات الفنان الراحل ، وكان يؤكد أن المرأة تلعب دوراً هاماً في حياة الرجل ، سواء كانت أما أو زوجة أو شقيقة ، واشتهر رشدي أباظة بلقب "دون جوان" ، فقد كان دائم الأسفار والتنقل ، وكانت أولى زيجاته من فتاة شقراء تدعي "بربارا" عام 1956 ، والذي أثمر عن إبنتهما الوحيدة "قسمت" ، ولكن الغيرة تسببت في طلاقهما ، ثم تجربة زواجه من تحية كاريوكا ، التي انتهت بالطلاق ، ثم زواجه من سامية جمال ، الذي يعد أطول زواج في حياة رشدي أباظة ، حيث ظلت في عصمته 17 سنة ، ومن أجلها طلق الفنانة صباح بعد زواج دام ساعات قليلة !.. وقد أحب رشدي أباظة تحية كاريوكا واعتبرها الأم والأخت والصديقة ، وأحب "بربارا" كنموذج للسيدة الغربية ، وأحب "صباح" كصورة للفنانة الراقية ، وأحب "سامية جمال" ، لأنها رفيقة مشواره وقفت إلى جواره تسانده في أحلك المواقف ، وتلخصت فلسفته في حب المرأة الأنيقة والجميلة ، ولكنه كما يقول المقربون منه ، لم يكن زير نساء مثلما أشيع عنه .. ورغم وصوله إلى قمة الشهرة والمجد ، فقد عرف عنه التواضع والبساطة ، وحبه الشديد للأطفال ، ومشاركتهم اللهو واللعب ، كما ربطته صداقات وطيدة بزملائه من أهل الفن ، ومن نجوم الرياضة أمثال محمد الجندي وحنفي بسطان "نجوم الكرة في الخمسينات" ، وكانت هوايته المفضلة لعب "النرد" و"البلياردو" ، والصيد ، كما كان يهوي الطهي ، ويجيد صناعة "المكرونة الإيطالية" بجميع أصنافها. قدم رشدي أباظة للسينما المصرية حوالي (140 فيلماً) ، دخل معظمها كأهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية ، مثل "الطريق" و"شئ في صدري" و"لا وقت للحب" ، و"جميلة بوحريد" و"غروب وشروق" ، و"أين عقلي" ، ورحل رشدي أباظة إثر مرض عضال ، إستشري في جسده ، ولم يستطع أن يواصل عمله في آخر أفلامه (الأقوياء) ، ليترك فراغا هائلا في السينما المصرية ، ورغم مرور (33 عاماً) علي الرحيل ، فمازال فتي الشاشة يحتل مكانة خاصة في قلوب المشاهدين العرب كنموذج لفنان مثقف إحتفظ بصفات أصيلة ، فكان ابن البلد المصري المحبوب ، وصاحب الرصيد الهائل في قلوب محبيه .